واقفون على حدود الأسى خائفين من العبور للتأسّي، ومستعدون لهجمة أخرى من المآسي.
توشّحنا السواد على الدوام، رغم أنّ الزي ترف، ورغم أنّ الغفلة مصير.
تسابق الأيام، لا أعرف ماذا تُطارد، كل يوم في مدينة وتشاركها جسدَها جروحٌ تُرى ولا تُرى.
أوقعت كثيرين في حُمى مطاردتها، ومازالوا يفعلون بهدى وبغير هدى، وعندما أحبّت فعلًا أن تُطارد، امتنع الصيّاد وتحجج بقيود أخلاقية.
الأخلاق عندها أمر ثانوي عندما يتعلق الأمر بروحها، حريّتها تدلّها على أن الأخلاق الصلبة ذات الحد الشرس لا تناسب ذوي الأرواح المرتعشة.
وصلت عنده وغلبتها روحُها. أضمرت قائلة لنفسها:
لن يراني ولكنه سيطاردني حتى يظن أنه سيراني،
سأراه حتى أظن أنني سأحبسه بقلبي،
سيرانا الله ويطبطب على قلوبنا قبلًا وبعدًا لأنه عالم نوايانا وخالق قيودنا،
سوف أقترب منه حتى أكاد أتنشّق رائحته، سوف أجعل مدينته التي يتباهى بعزلته بها موحشة،
سوف يتراءى له طيفي ولكن لن يراني، حتى ولو نظر إلى الجبل-أو قناة مائية يمشطها طولًا وعرضًا-فلن يراني،
سوف أرتعد وأمنعه من احتضاني، إنني أعرف أن ضعفه ضعفي،
سوف أضعف أمامه للحد الذي يتقطع قلبه رغم أن من يعرفني يعرف أنني أنا أشجع من في المعمعة.
إنني أنصت له بعد أن ظننت أن لا أحدًا يجيد الكلام سواي، الكلام الذي لايقال هو يقوله كله بتهوّر لا يعرفه من يعرفه،
وكأنه انسلخ من ملابسه وجلدته وضمّني بدمه وقلبه، إنني أكرهه بالحد الكافي لأن أعرف أني أحبه،
وأودّعه كأم موسى أمام البحيرة، وأرحل عنه في عز توجسه من رحيلي كيوسف وأبيه،
وأضمه لحجري كما فعلت عائشة لمحمد على فراش الموت،
وإنني المسيح لو أراد صلبي، لكنه حواريي وأعرف أنه لن يفعل،
حيرتي كحيرة موسى عندما قابل الخضر، لكن الفرق أن كلانا يعرف الجواب دائمًا:
روحانا معجونتان بدقيق واحد وتنور واحد تلهج نيرانه لإنضاجنا، خبزة، هو مصيرنا فإما أن نُؤكل أو نيبس.
أنا المعذّب والمعنّى
أنظم شعرًا وأطرق معنى
وأسبح في ظلام سريرتي
فتفيقني نفسي ومرآتي
على طريق التطهير أن يبدو كأنّه عذاب أكبر.
وبمجرد أن حللتِ مكاني، أحببتك بلهفة، حبًّا لا تشوبه أي شهوة، أحببتك حب الحقيقة، حب الصحبة، حب الخلاص، حب النوافذ والشمس،
أحببتك حب اليابسة للبحار، أحببتك حب الوجهة للمسافر، وإنني على استعداد للسفر مادام السفرحلَّا،
وعلى استعداد للغربة مادامت الغربة وطنًا، أتعرفين أني لا أريد أن أعرف على أي حالة وهيئة تأتين،
تعالي بهيئة بشر أو رمانة ، تعالي بسحرٍ كغزالة، ملاكًا كنتِ أم شيطانة، المهم أن تأتي، فمنذ أمرتني بالقراءة أول مرة، وأنا أتبع طيفك وآثارك في كل مكان.
أنا لا أريد أن أحبك كحب البشر، البشر يحبون لكي يحبسوا، يحبون لكي يشكلوا الآخرين على أمزجتهم،
إنني أحبك حب أن أحررك، إنني أقاوم رغبتي في تشكيلك بعدم الاقتراب إليك أكثر،
حيث إنني لا أريد أن أعرف إلا ماتريدين أن تشاركينه فقط، مسافتك التي تختارينها هي مسافتي:
البقاء على قيد الحياة ونحن نطل على جانبها الآخر بحماس الأطفال، نطل على الحب، نطل على الموت، نطل على بعضنا.
وله أن يمشي بيده عاريًا من الظنون متوشّحًا بالخطيئة يحرس الكلمات من أن يصيبها غول المعاني يرى بعينين ويومئ كأنه لم يرَ يغفر ويغفر.
يغفر لمن يستغفر ويجتبي من يحب؛ حتى وإن عرّش في فؤاده الحقد لا يعوّل على الذاكرة، في كل يوم يرى وجهًا جديدًا لا يعرفه في كل الوجوه التي يعرفها،
فالوحشة لديه أن تعتاد، ليله نهاره لولا كثافة ما تبقى من جسد.
غضبه بعد وقربه حذر يستمع بأذن ساهرة مابين الشك والخطر،
ويعرف حقّا إغماض النوايا اليائسة كم هي مشتهاة ويفتح بابًا للتطهير من شدة اتساعه تحسبه مدينة بأكملها،
ففي بعض المدن التي تعرفها مدن لا تعرفها لو أمعنت النظر وأحسست بالقلب الذي يركض وتركض خلفه
الحياة سوّدت وجهه وقلبه عرف علامتي من عيني وميّزت علامته من صوته،
جروح وحين تمر بجانبها ولا تعود تأثر فيك وتظنّ أنّك شفيت، وهيهات؛ فالمبتلى حيّ، والحيّ لا يطلب الموت قبل الموت، ولا يطلب العذاب لكنّه يستعذبه.
لديّ ألف سكين سننتها يوم الهياج ووضعتها بجانبي في قبّة البيت فعلى هذا الهدوء الداخلي أن يورثني انفعالًا غضًّا لا ينبغي أن يعرفه أيّ مدّعٍ.
الآن فقط على السادر أن يضع أحمال الطريق ويستريح تحت سدرة فقد كان دربًا بعيدًا وهجيرًا أحمرا.
إنّ عليك أن تعيش وتؤمن كما لم تخبر أحدًا قبلك قد فعل، ثمّ تسلم وتسلّم كما فعل كل الذين تعرفهم.
ففي اليوم الذي تنقلب فيه الظواهر والبواطن يصبح كلٌّ في مكانه.