هربًا من مآلات كثيرة وقعت في فخي الصغير، أعددت كل معاولي ومقاصلي، واختبأت عن أعين الأحبة والحرس متترسًا بكلماتي التي لا يفهم معانيها سواي، أسرق من الأيام ذكريات لا يتذكرها أحد معي مخافة التشويه والعبث والابتذال، لم أكن أبدً في حياتي هازل، أينما أحببت بشرًا حنطتهم، وأنطقت كل الجوامد فرارًا من الوحشة، حيث الجوامد وحدها من يسكت عندما نريد، كان في قلبي دوما ضعف لكل الموجودات ذات الإرادة الناقصة، ومضى عمري – كثيرًا كان أم قليلا- غزيرا وافرا مليئا بالدموع والمطر، بللت وسائدي وقبّلت دفاتري وأحطت نفسي بهالات عيني، كلما اقترب أحدهم نبحته، وربما نهشته لأتأكد من خلو قلبه؛ ذلك أنّ خالي القلب لا يشعر بالوخز ولا الخطيئة.
عاندتهم حاربتهم داهنتهم ووشيت بهم كل الذين لم يأخذوني على محمل الجد، راهنت على كل الأيام الغائمة قبل مغيب شمسها وساومت كل أموالي جزاء بئر معطلة سوف تنفجر ينابيعها مع انفجار عروقي. عندما أردت أن أغالطهم سألتهم واحدا واحدا: “وش ودكم فيه”؟ وكانت الإجابات الصريحة تدغدغني، إلا أن الصامتة كانت ما يخيفني جدًا، كلما شعرت بشجاعة فاجعة رأيت قطر دمي يبلل ممشاي.
لم أكن أكتب جملة واحدة مفيدة، جملي كانت تبدو معكوسة وناقصة بخطٍ صغير خجول عجول، ربما هربًا من المفيد وقعت بالمبكي، وخوفًا من الفضيحة والشفقة تعلقت بالمغالط والثائر والمعاند، المفصح عن تواضع، والهارب من القارئ الرتيب. وكانت هي وحدها جمهوري الذي أخاف ألا يبكيه نزفي، وألا يشعر بارتجافة واحدة وهو يأخذني إلى حتفي، بيننا اختفت كل الضمائر ولاحت كل المصائر، كنت طفلاً تارة ومحاربًا كهلاً أخرى، كانت أميرتي تارة وحارستي أخرى، كنت عبدها تارة وسيدها أخرى، كانت ابنتي تارة وأمي أخرى، كان خيط الأقدار يلاعبنا “شبرا أمرا ذكرا أنثى” وكنا نقفز بخفة.
كلما يئستْ أنرتُ لها شمعة، وكلما غضبتُ احتفلتْ بجمرة خديّ،لا أحسب أيامي معها كنت أسارع دائما بانتشال أشلاء قلبي، جعلت لي المسكن جنة من ذكريات وجعلت لها أحلامها الباقية كلمات، الخوف كان يأمرها بعكس مسيرها ومن أجل عينيها أجريت عقارب ساعتي لليسار، فتاة الشمال استعسرت على نفسها وتسلقتُ لأجلها كل الجبال في طريقي. تهيم فخارًا بي وأهيم بنفسي من أجلها، وهربًا من أسئلتها أطرت لها عمري طائرة ورقية، مادام قد انتهي زمن الرسائل، مادام لا أحد يغفر للتريث لمجففٍ قلبه أو نادب دهره، أحب كائنًا يستعجلني إلى حتفي وأنير له كهفي بسراج التجلّد والوحدة.