اليوم نبني المطامع لا أحد يهفو إلى قريتنا سوى الحالمين نؤازر جمودهم بلوعتنا ونبكي على مآسينا التي وحدتها الأيام بدمنا ودموعنا وعجيب أقدارنا، لا أحد يسأل الباكي لماذا بكيت لا أحد يسأل الضاحك لماذا ضحكت، فأسباب البكاء وأسباب الضحك هي أسرار الحياة والموت، أحد الجروح الصغيرة سوف يحيي قلبك لتملأ الدنيا دماعًا على كل المآسي التي أجلتَ البكاء عليها اعتقادًا منك بأنّ القلب يموت.
حرّ الحياة نصيبٌ كاملٌ من اللوعة، في القديم كانوا يزفّون العرائس لمن بسُل من أحبابهن ذلك أنه أقدر على رؤية المفزعات بنظرة ناعسة ويدٍ مليئة بالعروق الشاعرة، عندما نرحل من ظروفنا ترحل عنا رغباتنا القديمة إلى عالمٍ متنائي، أحدهم يريد أن ينسى آلامه وفي شديد سعيه على تركها خلفه ينسى مسرّاته.
لأجل أن نطوي صفحة أحتاج قلبك ليصفق الباب صفقًا في عيوني الطامعة، أحتاجه أن يريني كيف لرفض الهوى أن يكون قطعًا للهواء، أريد لكل الرواة ألا يتوقفوا عن سرد العجائب دون النظر إلى حياتي بسرد زمني رتيب؛ بل غفوة وصحوة، غفلة وشهقة، صومًا وشهوة، أن يعرفوا لماذا صمتّ وفي فمي كلّ هذا الكلام، أن يداروا نظرتي إذا استعرتُ من الحكماء أنَاتهم، وأن يراعوا استعارتي إذا نظرت من الشعراء كلماتهم، أن يتوقفوا عن تبرير كل أعمالي بما يعرفونه عني من تيبس للمفاصل من شدة الثبات، وأن يدعوا فسحة لعصرة القلب، لسَورة البلل في مقلة ثاني العطف عن الزلل.
صباحًا ونحن متحيرين بشأن دعوةٍ إلى عشاء المائدة الكبيرة قررت أن أصوم مثابةً للقلب المنقوع بالأسى واللهفة، واحترامًا للشهوة الغاضبة قررت أن أقبلها، من يعرف أننا نتحضّر لأعراس الدموع كما نتحضّر لأحراش السلوان، هل أدركْتَ قبلنا أقوامًا يتحضّرون للفرح كما يستعدون للحوادث؟ هل أدركت مقدار الأسى في رفضهم لكل الأعين الطامعة في قربٍ مخافةَ أن يزهدوا بنا حين يعلمون أنّا أنّا؟، وهل هناك فضيلة لذي الخيال الطلق سوى مراعاة خيالات الأحبة من سياط الوقائع.
ربما لسنا آلهة، لكننا بضعٌ منه، ولعلّ أرواحنا التي تكبلنا تحررنا، ولعلّنا نستعجل الخروج يومًا ونخطئ الحكم مدعاةً لإرضاء القلب فيبدّل الله خطأ الحكم توفيقًا وحفاوةً لصاحب القلب، جميلٌ أن تعرف أنّ عينك تخونك فلا تلومنّ صاحب الدنيا إذا سعى لها، وجميلٌ أن تعرف أنّ للغضب أشكالًا تدق لطفًا عن مآربك، وحريٌ أن تسعى لسرّ حياتك كما تسعى لحراث زرعك، فموسم الجفاف ينتهي بعصرة، وإيّاك ثم إيّاك أن تبرر أسرار الدموع، وإيّاك ثم إيّاك أن تحاكم الماضي بظروف الحاضر، وإيّاك أن تخبر الليالي عن فعل الأيام، وتنسلّ من نفسك شهوةً لإفشاء سرّ. إنّ الذين يفشون أسرارهم ضاعت منهم ذواتهم وهم لغيرهم أضيع، والاستثناء أساس القاعدة، فمنّا من يؤجّر قلبه للصدى كي لا يصدأ قلبه، ومنّا من يعير الحجارة حجرًا مقنعًا يتشقق من بينها مثيرًا للأنهار، لا تستعجلن الحكم على الحياة وأنت تملك غدًا أبيضَ اللون، غدٌ كاملٌ بكل فصول السنة.
أعمى يسامر أعمى قد فقد بصره منذ مدة:
تُرى كيف يحلم المبصرون إن كان للخيال عين مغمضة؟
عندما كنت مبصرًا لم أكن بحاجة للخيال إلا للاستبصار.
واليوم كيف تحلم ؟
بمجموع قلبي ذلك أني عندما فقدت بصري اكتسبت شجاعة الموتى.
ماذا تعرف عن شجاعة الموتى ؟
أنهم يتجولون دون جسد ويبكون دون عيون ويستمعون دون آذان ويلمسون دون يد.
إني لم أكن مبصرًا يومًا وكنت أعتبر البصر دومًا ترفًا أمام البصيرة.
وسوف تعتبر الحياة بجسد ترف أمام الحياة دون الجسد، في كل نعمة ترف، لكنك لا تموت أبدا موت الشعور إلا باختيارك، وهذه إرادة الحيّ الرافل بالنعم.
أن يملك إرادة رفس الحياة؟
أن يملك إرادة قتل الشعور متى ما أراد.
وهل يندم يومًا على هذا ؟
يندم من جهله بضرورة الاستزادة يوم الزينة قبل أحقاب الإبادة.
إنني أبكي من عيني التي لم تبصر يومًا.
وكذلك ستبكي قلبك في قلوب الآخرين ماحييت، وبعد موتك، طبت حيًّا وطبت ميتا.