أن يخلّف المرء عدوًا واحدًا جرّاء أفعاله الشنيعة فهو أمر مشين، لكن الأشنع منه أن يظنّ أنه لم يقم بحياته بعمل واحد يستحق العداوة عليه.
هم يقولون أنّك تعيش طويلًا بما فيه الكفاية لأن تتبدل كل خلاياك أكثر من مرة، إذًا كيف تُحفظ الذاكرة؟
هم يقولون أنّ المصائب لا تقتل عند حدوثها بل بعدد مرّات تذكر ما خلفته من أثر بنا، كم مرة نتخدر من الموت، وكم قلبًا يُبتلى لينضج في أحداقٍ لم تعد ترفّ فرحًا إلا وهي مطبقة على أجفانها خشية خديعة الأيام.
وعندما نصحو من الحلم السعيد كيف نعلم ما إذا كان الحلم من خيالاتنا أو نداءً من مستقبل يبشّرنا كما بُشّر يعقوب في مغبة أحزانه ولم تمهل البشارة قلبًا من شدة الكظم أعمى البصر.
الشاعرية تناديكم واحدًا واحدًا يا من ظننتم أنّ الهدوء الطويل يمنع من غدر الأيام، سوف تحكي لكم قصة الإنسان وكيف أنه لم يُخلق ليتحمل كلّ هذه الآلام.
أشرس الأنياب هي التي تأكل مفارق شفاهها، وأشطن العيون هي من ذاقت طعم دم صاحبها واعتادته.
في كلّ مرة تقاوم الندم يُبعث غراب ليدلك على دفن الخطيئة وفراشة تحترق أمامك ويافوات القلب الذي لا يعتبر.
منذ زمن لم أتطلع إلى أحد، منذ زمن لم أتواضع لأحد، منذ زمن وأنا أرتعش من الصدق في عالم خيالي يخاف من الدمعة اليتيمة.
كنت أشطر الجُمل لتحمل الوجهين والثلاثة كيما يسألني أحدهم عن المعنى، ألا كيف لا ترى كل المعاني التي لا جدوى من طرقها؟، وكيف لا تعرف أنّ التفسيرات كلها مؤقتة بزمن ومرهونة بفهم؟.
الفهم بلا حد، كما أنّ العلم بلا حد، فليست المشكلة بأنّ العلم قديم بل بإنه ذو طبيعة مغايرة، وليست مشكلة الفهم بأنّه معقّد بل بإنه متغيّر بك ومنك.
كيف يثير الشفقة كل متبعي البرق الخالب، عند من يتبعون نور القلب، وكيف أنّ الأحلام لا حدّ لكذبها، وإنّ واهب الحلم القداسة هو نفسه واهب الموت القداسة وكليهما واهمين، فالحلم والموت من عالمِ ماقبل اليقظة الأخيرة، فيهما من يلقي في الأماني ومن يخبب على المتأمّل ومن يخوّف الراغب ويحفّز الطالب.
أحتاج لغة واحدة لأقول معاني لا حصر لها، وعشر لغات لأصرخ وأغضب.
في الظل أرى جيدًا أنّ الشمس لا تضرّ إلا إذا تعرّضت لها كثيرًا وستعرف عندما تفعل، لكن وحده الظل ممتدًا وقصيرًا لا يُشعرك بشيء من الضرر فيما أنّه كله ضرر، وستعرف ذلك عندما تنتهي راحتك.
الراحة لو كانت طويلة تُسمّى موتًا.
والنيام -و إن طالت نومتهم- مستيقظون.
وسيعرفون كم شمسًا غابت وهم يرتبون أحزانهم خوفًا من جرحٍ جديد.
الكاتب: عبدالحكيم
آخر ماكتبت: العنوان
قطعتي: قطّعني الشوق ووجدت شيئًا غريبًا. وجدت أنّ الأيام هي الحياة مقطّعة، كيف نستطيع مضغها؟، ولم تسغ لي أبدًا إلا كاملة، حتى مايسمونه لحظات لا أعترف بها، لم أحفل يومًا بمعنى أن تكون الحياة مجرد لحظات، كنت ومازلت محترمًا كل المآسي والجروح والساعات لكني لا أسميها بأساميها، أعتبر كل هذا حياة، حياة واحدة لا تتثنى ولا تنثني، ففي كل مرة حاولت تسهيلها تسييرها تبسيطها أقع في مأزق القداسة، العظمة، الشعور، وأنكفئ راجلًا وممسكًا كبدي خشية الكفر.
الليلة كانت كل الليالي، والقمر كان كل الأقمار الباهرة التي انتظرتك بها، العمر كله أنا، الشباب لم يكن شبابًا لأن الطفولة لم تكن طفولة، كنت أكتب لك قلبي كاملًا وجسورًا، كما ارتحت، وسأظل أكتب حتى وإن لم تعودي تقرأين كل ماكتبت، ولقد كتبت كثيرًا من الكلام الذي لا معنى له سوى الصراخ والاعتراض والتلكؤ عن المضي بعيدًا عن وحدة الحياة.
التفلسف في المعاني كانت محاولتي البريئة والعنيدة لصفّ طريقة فريدة عن معنى الحياة، ورصف كل الأشياء التي رأيتها متفرقة في قطعة واحدة، كنت أرفض أن أنثني للصواعق حتى أكتب عنها بعد أن تهدأ، وهل تصدقيني إن قلت لك إنني أريت قبل أن أرى ؟ وياترى هل تعرفين عدد المرات التي خاطبتك بها من قلبي، لم تكن كلمات بل كانت دغدغات، موسيقى، وكثير من الأنفة والفرح بأنّك تعيشين معي وبمعيتي وفي عصري ومكاني، ولكنها الحكمة الإلهية الباهرة التي تقف وراء مايسمونه الظروف، تُخفي لنا مالم نره بعد، ولست متفائلًا بفطرتي ولم أكن يومًا متفائلًا بشأن الحياة أبدًا، بل إنني لا أعرف معنى التفاؤل، بل كنت أتقبلها وأعايشها بكمالها، بصيرورتها كشيء واحد يعجبني أن أشعر به.
خشيتي كانت دومًا من موت الشعور وموت القلب، لا أستطيع إسعاف قلب ميت، أو قلب لم يعد يميزه حبيبه، كل الأمراض والأدواء أعتبر أنها محاولة لإنعاش قلب ما فقد شعوره، ولهذا ربما أجد نفسي مريضًا ، بقلب يفقد بوصلته كل مرة أعرف أنني أشعر، أعرف أنني أكبر، هذا الجسد يكبر، هذا العقل يذهل، لكن روحي لا تشيخ ولم تكن يومًا فتية، بل هي قديمة ، وقريبة، وسقيمة، ورواح الروح لا بالهوى يكون بل بتفنيده.
إني أفنّد كلّ ما أرى حتى يعود لهيئته أو يتماسك حفاظًا على هويته، والناس أجناس يتصابون مرة ويتعامون مرة ويؤذون مرات، إني أعرف كيف تمرّ الحياة على أحدهم حتى تهوله، فيقسمها بالسنوات والأشهر والأيام والأقمار كي يهضمها، لم أكتشف هذه الخدعة إلا مؤخرًا. وكانت مزحة ثقيلة على كبر تلقيتها ولم أضحك. هذا المكان مليء بالتافهين الذين يستبسطون كل شيء حتى فوات الحياة. وأنا كل ليلة أتحسر على كل لحظة بلا قلب، وبلا ذكرى، اضطررت إليها عدوًا وظلمًا، ويابعد ظلمي وجهلي.
ألازلت تصدقين كم كان هذا الأمر غضًّا بريئًا في عيني، وكيف أكل من يقيني شكك، وثرت مرّات وعاكست مرّات وسلّمت مرات ولم أجد من بقية لهذا اليقين، إنني محرج من كل شعور اصطنعته، وتمضي حياة المرء في زمن لم يعد لكثرة أو قلّة أن تحرّك شعور أحدهم، أضطر مُكرهًا للتخفف والتقلل من كل شيء، كي أعود فأشعر. كنت قد قطعت منذ أزمان أن يفهمني أحدهم، أن يفهم محاولاتي ومآربها، ووجدتك تفهميني بحبي لا بعقلي ولا بنيتي، لكنك أصبحت مثل الآخرين يتحرجون من الاقتراب لأنهم لم يعودوا يعرفون من يخاطبون.
في زمن مضى كنت أكتب دون تنقيح والآن أحاول أن أصف شيئًا واحدًا دون تحسين فأفشل، أكره الندم ولكن لا يخيفني، وأحب خيبات الأمل لكنها ترعبني، أخاف من أن يخيب أمل، وبتّ أتحرز مثلي مثل كل حريص كنت أعاتبه يومًا، لم أكن حريصًا في حياتي، وتماديت في التهور مرات ومرات، عجيب كيف يكون المرء من يكره لمجرد أنه عاشره مدة، وكيف هو رقيق عقل المرء وكم يتطرّى قلبه حتى يهرب منه ويتقلب ألف متقلب دون أن يحصي صاحبه مكانه، فكلها غمضة أو غمضتين حتى يبرق في مكان ما وعليه أن يظل يلاحقه.
لم يكن يومًا حديد ولن يكون، بل هو رحّال مسافر غريب ومتغرّب فريد من نوعه وعاصٍ بطريقة وحشية، أتراني أكتبك أو أتجنبك، عجيب كيف تتعرى الفاكهة من قشرتها فيطيب مذاقها أو يتعكر حسب الفم الذي يقضمها، ربما الأسرار التي أخبؤها وتغيب عني تقهقه في قاعٍ ما الآن، لكنها ستأتي وحين تأتي سوف تجدني مازلت قابضًا على حياتي كاملة دون تقسيم، ومستعدًا لأقول أو لأصمت لكني لا أنسى ولا أنام عن معنى عصرني وتيه قلبي.
إليك السلام.
من ينقذ الإنسان من الإنسان؟
قالوا إنّه يملك بالإحاطة, وقالوا أنّه يملك بالسبق، وقالوا أنّه يملك بالقرب، وقالوا أنّه يملك بالتجسد والحلول، وقالوا أنّه يملك بالتكرار وضرب المثل. فالأساطير أوهام لا تصحّ إلا بذهن الإنسان، وجودها دليل صحتها في عالم آخر.
أجاد الوقت تقليب الخواطر، فمن ينقذ الإنسان من الإنسان؟، ومن يحميه من نفسه إذا غاب الآخر، نحن لم نكن منذ الولادة في مكانٍ واحد مرتين، نحن نهوي منذ أحقابٍ من ديرٍ إلى دير، من بئرٍ إلى جبّ إلى خبّ.
أوّاه كم نغترب، أوّاه كم تمرّ أيامنا سريعًا، ونقطع العهد على أن نغضب، فنتعب من انتظار اللحظة الملائمة للغضب، فيموت الشعور، ويموت معه القلب الذي عزم على ألّا يهادن في أمر القلب، ثم نحيا بعد أمدٍ من الانطفاء والموت، نتذكر مامضى كأنّه لم يمضِ، وكأنّ العهد بالإنسان هو الذكرى لا الانتباه، ألم تداهمك يومًا خلسةً خواطر سوء الفهم: ألّا يفهمك أحدٌ عن قصد؟
أحدهم يحكم عليك في اللحظة التي يحاول جاهدًا ألّا يحكم عليك، والحياة تُفرّق بلا حلٍّ مطلق؛ بل إنّها مأزق، سجنٌ طويلٌ من الظنون التي لا تصح والمظالم التي يُنتقم بها من الأشخاص الخطأ. المقدمات التي يفترضها أحدهم إن لم يدرك أنّها تحدث في رأسه لغايات يشتهيها، فلم يصل بعد لمغزى التأمّل. إنّ التأمّل يعلّمك فقط شيئًا واحدًا: لا يمكنك إصلاح العالم. لكنك حتمًا تمتلك قدرة التحكّم في تأثير فساده عليك.
يالضعف الكتوم لا يلوم إلا نفسه، يالقوته يرحب بجميع ملامات الآخرين له. يالقوة القلب الذي يحوي كل هذه الحتوف ولا ينسى منها شيئًا. إنّ من الكفر أن تنسى، كما أنه من الكفر أن تحاول جاهدًا ألّا تنسى. فسبحان من لا ينسى لأنّه لا يحتاج لأن ينسى.
إنّ العدل الوحيد في هذه الحياة هو في فرصة الحياة وخلاص الموت، ومابينهما نوايا دفينة أرادها أصحابها دون إرادة مقدماتها، والله يعطي الأمر مع إرهاصاته ولوازمه ولواحقه، فمن أراد أمرًا فعليه أن يقف له ومن أجله، ومن أراد أمرًا فعليه أن يختاره بعناية فيتحمله.
الخيال كذوب وخلوب وطيّار، لكنه ساحر وملول، من يستطيع السيطرة على ملله؛ يستطيع الهرب من سطوة سحره؛ وعليه فإنه يستحق الإلهام، يستحق الفكرة المتكررة، والسنّة المؤكدة. يتخيل الناس أشياء في رؤوسهم عنك لأنهم لا يستطيعون التحرر من خيالاتهم، وينتهزون أقرب فرصة لتثبيت التهمة عليك حتى يكون أدنى فعل منك بمثابة دليلٍ صارخٍ على ذلك.
فلا أشعر بالملل أبدًا إلا في اللحظة التي يهددني بها أحدهم.
أن يرى المرء مالا يُرى عليه أن يتمثل بالحبيبة وأن يكفر بالأشخاص ومظانّهم.
كره الكلمات ينبع من يقين عميق بقصورها عن تحنيط مشاعرنا الجيّاشة بالطيور المهاجرة. وفي هذا الأمر على المرء أن يربط نياط القلب ببعضها من أجل ألّا تنفلت فيضيع جماع المرء وتذهب ريحه. ألا ترى أنّ الإنسان إن خاف يحاول جاهدًا أن يرعب آخر تحت حجج كثيرة واهية. لم أستطع أبدًا تبرير كيف ينتقم أحدنا من الآخر لأنّه مظلوم. من ينقذ الإنسان من الإنسان؟
يكاد المرء أن يناقص قوله فعله في كل وقت، بل يكاد إن أحسن الكلام ألّا يفعل، ويكاد إن فعل ألّا يجيد اللين والطيب من جود اللسان، ولا يجمعهما إلّا من مرس على الاثنتين. وكنت قد أدمنت النظر في الناس فلا أرى إلّا مارأيت، ويرون مالم أرَ، فلا أمل في التفاهم أبدًا إلا في التوافه أو بالتنازل عن الفهم.
ولا أقول ولا أزيد، فلم يكن قلبي يومًا حديد؛ ولأنّه كذلك أبكي على الإنسان: من ينقذ الإنسان من الإنسان ؟
ربّ سمير مُسامَرٍ ككذبٍ أصاب كبد الحقيقة
اليوم نبني المطامع لا أحد يهفو إلى قريتنا سوى الحالمين نؤازر جمودهم بلوعتنا ونبكي على مآسينا التي وحدتها الأيام بدمنا ودموعنا وعجيب أقدارنا، لا أحد يسأل الباكي لماذا بكيت لا أحد يسأل الضاحك لماذا ضحكت، فأسباب البكاء وأسباب الضحك هي أسرار الحياة والموت، أحد الجروح الصغيرة سوف يحيي قلبك لتملأ الدنيا دماعًا على كل المآسي التي أجلتَ البكاء عليها اعتقادًا منك بأنّ القلب يموت.
حرّ الحياة نصيبٌ كاملٌ من اللوعة، في القديم كانوا يزفّون العرائس لمن بسُل من أحبابهن ذلك أنه أقدر على رؤية المفزعات بنظرة ناعسة ويدٍ مليئة بالعروق الشاعرة، عندما نرحل من ظروفنا ترحل عنا رغباتنا القديمة إلى عالمٍ متنائي، أحدهم يريد أن ينسى آلامه وفي شديد سعيه على تركها خلفه ينسى مسرّاته.
لأجل أن نطوي صفحة أحتاج قلبك ليصفق الباب صفقًا في عيوني الطامعة، أحتاجه أن يريني كيف لرفض الهوى أن يكون قطعًا للهواء، أريد لكل الرواة ألا يتوقفوا عن سرد العجائب دون النظر إلى حياتي بسرد زمني رتيب؛ بل غفوة وصحوة، غفلة وشهقة، صومًا وشهوة، أن يعرفوا لماذا صمتّ وفي فمي كلّ هذا الكلام، أن يداروا نظرتي إذا استعرتُ من الحكماء أنَاتهم، وأن يراعوا استعارتي إذا نظرت من الشعراء كلماتهم، أن يتوقفوا عن تبرير كل أعمالي بما يعرفونه عني من تيبس للمفاصل من شدة الثبات، وأن يدعوا فسحة لعصرة القلب، لسَورة البلل في مقلة ثاني العطف عن الزلل.
صباحًا ونحن متحيرين بشأن دعوةٍ إلى عشاء المائدة الكبيرة قررت أن أصوم مثابةً للقلب المنقوع بالأسى واللهفة، واحترامًا للشهوة الغاضبة قررت أن أقبلها، من يعرف أننا نتحضّر لأعراس الدموع كما نتحضّر لأحراش السلوان، هل أدركْتَ قبلنا أقوامًا يتحضّرون للفرح كما يستعدون للحوادث؟ هل أدركت مقدار الأسى في رفضهم لكل الأعين الطامعة في قربٍ مخافةَ أن يزهدوا بنا حين يعلمون أنّا أنّا؟، وهل هناك فضيلة لذي الخيال الطلق سوى مراعاة خيالات الأحبة من سياط الوقائع.
ربما لسنا آلهة، لكننا بضعٌ منه، ولعلّ أرواحنا التي تكبلنا تحررنا، ولعلّنا نستعجل الخروج يومًا ونخطئ الحكم مدعاةً لإرضاء القلب فيبدّل الله خطأ الحكم توفيقًا وحفاوةً لصاحب القلب، جميلٌ أن تعرف أنّ عينك تخونك فلا تلومنّ صاحب الدنيا إذا سعى لها، وجميلٌ أن تعرف أنّ للغضب أشكالًا تدق لطفًا عن مآربك، وحريٌ أن تسعى لسرّ حياتك كما تسعى لحراث زرعك، فموسم الجفاف ينتهي بعصرة، وإيّاك ثم إيّاك أن تبرر أسرار الدموع، وإيّاك ثم إيّاك أن تحاكم الماضي بظروف الحاضر، وإيّاك أن تخبر الليالي عن فعل الأيام، وتنسلّ من نفسك شهوةً لإفشاء سرّ. إنّ الذين يفشون أسرارهم ضاعت منهم ذواتهم وهم لغيرهم أضيع، والاستثناء أساس القاعدة، فمنّا من يؤجّر قلبه للصدى كي لا يصدأ قلبه، ومنّا من يعير الحجارة حجرًا مقنعًا يتشقق من بينها مثيرًا للأنهار، لا تستعجلن الحكم على الحياة وأنت تملك غدًا أبيضَ اللون، غدٌ كاملٌ بكل فصول السنة.
أعمى يسامر أعمى قد فقد بصره منذ مدة:
تُرى كيف يحلم المبصرون إن كان للخيال عين مغمضة؟
عندما كنت مبصرًا لم أكن بحاجة للخيال إلا للاستبصار.
واليوم كيف تحلم ؟
بمجموع قلبي ذلك أني عندما فقدت بصري اكتسبت شجاعة الموتى.
ماذا تعرف عن شجاعة الموتى ؟
أنهم يتجولون دون جسد ويبكون دون عيون ويستمعون دون آذان ويلمسون دون يد.
إني لم أكن مبصرًا يومًا وكنت أعتبر البصر دومًا ترفًا أمام البصيرة.
وسوف تعتبر الحياة بجسد ترف أمام الحياة دون الجسد، في كل نعمة ترف، لكنك لا تموت أبدا موت الشعور إلا باختيارك، وهذه إرادة الحيّ الرافل بالنعم.
أن يملك إرادة رفس الحياة؟
أن يملك إرادة قتل الشعور متى ما أراد.
وهل يندم يومًا على هذا ؟
يندم من جهله بضرورة الاستزادة يوم الزينة قبل أحقاب الإبادة.
إنني أبكي من عيني التي لم تبصر يومًا.
وكذلك ستبكي قلبك في قلوب الآخرين ماحييت، وبعد موتك، طبت حيًّا وطبت ميتا.
أوراق-ورقات-يرقات-إيراق-رقّة-رقّ الحبيب
هنا صوتٌ لا يهمّ أحد، طارئ طرأ في أعين الناس كلّهم، يرون شيئًا لا أراه.
خذ الرصانة ولتهتزّ العرائش والعروش لمرأى الربيع، بهجة ونظرة ونضرة، كثافة العسل في ظمأ النحلة قبل أن تتورم إبرتها من اللسع، هل تشتمّ رائحة التلاقي؟، العالم من حولنا يتماوج، يتمازج، ويتزاوج، بيد أنّ الجميع مهتمّ بتلقيح نفسه ضد زوج محتمل قد يقتله، من الكائنات التي تملأ فتحات التهوية ومداخل البيوت لكنها لا تُرى بالعين المجردة من شدة حقارتها. إنه موسم التزاوج والعذارى سوف يلفهن ريح محملة بالأتربة والأطماع المخبّأة: متى تستيقظ الشمس؟ سؤالٌ كجوابٍ لسؤال آخر: متى تنكشف الأشياء؟.
هذا الكون استعارةٌ من كونٍ أسمى منه ولا يُرى، ضع هذه العبارة في أفواه ناقصي الخيال، سارقي البهجة، عاصري المهجة، واعذريني على اللهجة، ماكان لينتهي هذا الهجاء لولا ولولا .. ،لو كان الآخرون يعلمون حدود المهضوم وبدايات الابتذال، لو كان لهم روح؛ لما كانت لهم قلوبٌ تقوى على عشقه، ياسيدة كلماتي، أوتسمحين بلحظة تمرّد: أن تشهدي لحظة الولادة، عثرات الارتباك، خجل البدايات، وصعوبة بلع لقمة كبيرة على فم الوليد.
المطر .. الماء .. الحياة .. أصول الأرومات .. أول المسببات، أوّل التنوّع، قبل التنوّع: النور – الماء – الخيال – الأسماء. ولا يغرّنك انقسامها إلى أصغر، بل عليك مطالعة قدرتها على الخلق والتعديد، وصنع المزيد من واحد، فالجديد لا يطلع إلا منها، وغيرها يسبّح بحمد نعمتها.
أما النار – الأحجار – الإجماع – التشكّل، كلّها انهيار من متعدد إلى واحد، تردفها ضحكة المكتوي، ألّا تقول نعم ولا تقول لا، وتدّعي أنّ هذا ابتلاء، الإبلاس والقساوة والرفض، وكل شيء من غيرها ينتهي إليها، وإليها معاد كل ماهو دونها.
التكرار يملّل من لا يرى في السياقات، من ليس لديه عقل. التكرار داء، التكرار دواء، التكرار علامة على موتٍ ما، إشارة قف واحذر: إنّك تموت ببطء، فما كان يجب عليك أن تلاحظ التكرار، أو حتى تمتعض منه، إن لم تصدقني فخذ مرآتي ونظارتي: مرآتي لترى أنّك لا تملّ من مطالعة ما ترى رغم تكراره. والنظارة لتعلّم أنّ ماتراه، كلّ ماتراه مرهونٌ بجودتها وحسن عكسها وفضيلة مكسها، نصيحتي إليك: لا تملّ من التكرار. ونصيحتي الأخرى: احذر من أن تتبع أي نصيحة مباشرة بشكل مباشر.
(ثياب أفراح وزينة، زهور مالية المدينة، وهواه بينادي شوقنا، بيصحّي في قلوبنا
طيور ألوان تزورنا، تغنّي فوق ديارنا، أغانيها السعيدة، لأيامنا الجديدة) .
النّار والكبد: دربنا الممتدّ إلى الأبد
ياسارقًا باللمس إنّ اللوم فرجةٌ في جدار الزمن لم يعد لها وجودٌ إلاّ في خيالك، فاردمها، واحمد الله على حرية الخيال، إنّ هذا الوقت لي ولك، وإنّي أراك منزلي وساكينه:
الأحلام بيوت الأحرار الهاربين من وحشة الدار إلى فسحة الجار، ذكرتك مرة فانتابني تطريب، هل كان بيتًا سمعته أم كان بيتًا سكنته، أم كان وهمًا رسمته، سوف يقول لي صاحبٌ أدمن النظرَ في خفايا الظواهر: إنّ النار لا تشبه النار في شيء سوى في قدرة التفكيك، وأنّ الاحتراق عرَض التحلل، وكذلك الحزن المقيم لا يشبه الحزن في شيء سوى أنّه نار (تضطرم من شدة الألم)، سوى أنها كبدُ الحقيقة تسمّمت من شدة إدراك التفاصيل. ستقولين لي يانجمة المسرّات الصغيرة: إنّ الحقيقة متعذرة، مادامت التفاصيل نائمة في لطف الإله يحمينا من هولها وطولها ومكرها؛ لكنّ كبدي تجيبك بما أجبتِ به نفسك: مابال روحي تهتزّ كهندباءة في يوم جميل لم يعكّر نسيمَهُ العليل سوى ريحٌ عاصف، اعترضَت مسرّاتنا وعرّتنا من ألبستنا، قطعة قطعة كأزّ الضرس من الألم، لا دفعة واحدة كما نشعر بالحزن الشفيف.
إنّ الحزن لا يشبه الألم في شيء سوى أنّه صورته المجملّة، المكمّلة، المتهدّلة، المنسدلة، التي تشرب حرارة التفاصيل كقطعة هشة من الخبز مرمية في إناء الثريد تشربه وهي منه حتى يجفّ كلّه في جوفها، فنظنّ أنّها في جوفه، فنظنّ أنها إياه.
كبدٌ ونار هما دليل النفس إلى أصول الأشياء، واللغة حرفان مزيدان بثالث، رسمٌ لو رأيته من عالٍ لأعجزك، وإن رآك ما استصغرك، فهو ربّ السرّ أودع في الأشياء هُداها دون أن تعيها أو تراها.
كم استخدمنا المعاني دون أن نعرف كيف وصلت إلينا، بمجرد الشعور وملكة الحسّ أتُرى ماكان يفعل آدم في غربةِ الأوّلِ من كلِّ مسلَك، لم يكن يملك خيار استعطاف الماضي واستنزاف الذاكرة، بل كان يرفل بالكبد والحواس وعوالم الخيال، ماكان يملك وقتًا للحزن، بل للنسيان، وكان شديد الأُنس بالتجربة، كان إنسان، حتى أنّه أوغل بكفر الذاكرة ونسي العهد.
وأنت الآن بالخسارة بعد الكسب لم تعد تطلب الحسّ من شدّة غثاء الذاكرة.
إنّهما النار والكبد: طريقنا الممتدّ إلى الأبد، عن كلّ حزنٍ مضى إنّي أرى كل آلامك وأحصيها وأعدّها عدًّا، هكذا تورق العشقة من جذر بعيد استعصى على حارث النهار أن يقتلعه، فنقل التربة، وارتمت على التربة، واختلطت حتى لتوشك ألّا تعرف الفرق بين التربة والتربة عن طريق العشقة؛ إلّا بغصنٍ وغصين، ومن ورقة ربّما أو ورقتين، ومن عين لا تشبه العين إلا بالنظرة.
من يرانا والقمر ثالثنا، من يرانا وأصل خلقتنا يحملنا، لا دارٌ ولا نسب، ومن يحلف أنّه رآنا معًا ما كذب، ومن يحلف بأنّا لم نكن مع بعضنا من قبل ماكذب، فلا تستعجب، أشعلنا على أحزاننا النيران فافترقنا ثم اجتمعنا كتربة على تربة ، كأصل الخلقة، وكما ينبت العشب بين مفاصل صخرة درويش، وكما جبال مريد الذي تمعّن في جمالها فأدرك أنها “الوقت متخذٌ جسدًا”، وكما نار حسين الأبدية، نشتعل بمقياس ونخبو بمقياس كي نلتحم على مزاج وسكرة الحياة تنسينا عذاباتها، وكالسرّ الذي لن يفيدك شيئًا أن تعرفه؛ لأنّك تعرفه، لكنّك نسيته، وستنساه، حسرتي على الإنسان الساهي من فرط ملل، والناسي من فرط اندهاش، والعازم على ألّا ينسى العهد فيُفتن من شدة الجمال فينسى فيسجد لخالق الجمال.
ربّنا إن هي إلا فتنتك، كما ظنّ داوود فسجد، إن نحن إلا عبادك، لاتهلكنا بما يفعلون، مايفعل الله بعذابنا، واجعلنا من الشاكرين، وأدخلنا إياها بسلامٍ آمنين، مؤمنين، ذاكرين، مطمئنين.
سلّة الخوف
عتيمٌ وقمرٌ وأطفالٌ يلعبون ملء حناجرهم
لأنّ عبراتهم لم تتهذب بعد.
وقف المساء منتظرًا على بابي ومحمّلًا بأهدابك
أهدابك التي كانت تقودني إلى قلبي
وتقود قلبي إلى حتفه
رأيته فلم أرَ إلّا نقاء الدمعة التي لم يُخلق لها سبب بعد
بكيت ببساطة الحسرة التي يحملها من رأى ولم يقدر
وجهك الذي قال كل شيء دون أن تحركي لسانك
وأعطيتني يومها سلّة بها الكثير ممّا أحبّ
والكثير مما تخافين من حدوثه
الورد قال لي أننا رمز خوفك القابع في أعماق اليتامى على أبواب المساجد والصحاف
أستعيد بعضًا مما يفيض به دمعي الذي سار كما تسير الركبان مشتاقةً إلى أوطانها:
أعرفك…..لا أعرفك
أحبـــك…..لا أحبــك
ستقتليني….سأقتلك
ستغدرين….سأنتظرك
سعيــــد…..حزيـــن
فائــــز…..خســـران
حائــــز…..حيـــــران
هذه البتلات مصداق الشك في عقلي المكبّل خلف حريّة الروح
وهذه الروح لا تنتمي ، وأنتمي لها
خوفٌ مجنحٌ كعصافير على السدرة
السدرة التي يحنّك بريحها الموتى
جملي التي تفقد معناها كلّما تقدم بي العمر تخيفني هي الأخرى أيضًا
أتذكرين ماذا قالت لنا الفناجين بعد أن شربناها ؟
لا أتذكر مثلك إلا مالم تقله:
” لا شيء يحدث إلا الذي تخاف من حدوثه، فسمّ معجزتك”.
أستعير منك اسمك فأرتوي
وتستعيرين مني صفتي فتكبرين، بي
والخوف يتضاعف إذا كان منفردًا
ويتضاءل إذا جمعتِ خوفك إلى خوفي
هاتي سلّتك أعرف مابها ويؤلمني
وافصحي عن مكامن سلّتي
كي أعرف من أنـا
إنّي أجدني في ارتجافة أحداقك
وكي تعرفي لماذا أتصرف بكل هذه الغرابة.
إنّ المطر والسحابة
هما الحبّ والصبابة
أجمل مافي السحابة
يهطـل
أجمل مافي الصبابة
يقتـل
فخذيني منجل
اضربي بي عدوك واسبري أغوارك
ودعينا نبتلّ، لا مفـرّ
بدمعتين على مفارق الشفاه
قبّليني حتى يشهد المـاء
على عهـد الدم واللحـم
وليشهد أوّل الشتاء
على ماينتظرنا في آخره
فأجمل الأيام يومٌ لم نخطط له
وخطط لنا لقاءً من شدّة حلاوته
انتهى في الخيال قبل أن يبدأ
أو ليلـة، أو ليــلة.
مواء قطة وحيدة
أصواتٌ نسيت نفسها
تتذكر فقط شعور الحسرة
لا تستطيع أن تثبت أو تنفي تهمة
تنظر إلى الماضي كحلم لا تعلم كيف بدأ
لكنه لم ينتهِ بعد
كلما اقتربت يقظتها
سحرها حلم داخل الحلم ونسيتْ من جديد
هذا العالم ليست له وجهة
ولم يأتِ من مكان
أو ربما أتى من مكان لا يشبه المكان التي تأتي منه تصوراتنا عنه
لا يعطينا الأشياء بصيغة مباشرة
رغم أننا موقنون باستحقاقنا لكل مانملك
الأمر يتضح بجلاء عندما نُسلب ما أُعطينا
ندرك حينها حجم الخديعة
أنّ مدركاتنا تظن الاستحقاق بجريرة تصوراتنا
وتمنع عنّا تساؤل أحقيتنا بالوجود أصلًا
أكنّا نستحق أن نكون عينًا ؟
وجودنا هبة
موتنا هبة
وبينهما ملايين الهبات والسرقات لم نخترها ولكنها اختارتنا
يمضي النهار تستمع إلى أحاديث الآخرين
يأتي الليل تنصتُ لأحاديثهم تصوت من داخلك
وكأنه لم يكن كافيًا أن تصرخ روح واحدة تائهة
في النطق مهارة التخفي
قابلت أحدهم يخفي حزنه بنكتة سخيفة
وآخر تمرّس على إضحاك الآخرين من بئر آلامه
بعضنا يكيد لبعضنا بسرقة آلامه بنكات
وأنا أتبصّر بكل ذلك الضحك المقنّع
وبكبرياء الكائن الذي يدفن دموعه بابتسامة
أعادتني الذاكرة للرضيع ولما يتمرّس بعد على الضحك
وذويه يضحكون فرحًا بمقدمه
أتى مقتسم الحسرة
ناصرنا على الآلام
بضحكة
قطة في الحي تموء كل ليلة
بينما تسرق بقية القطط نصيبها من بقايا الأكل المتراكم في الحاوية
هل تموء القطط ضحكًا أم بكاءً
ربما لو أصغيت جيدًا لفرّقت بين قطة تضحك وأخرى تبكي
ربما لو احتجت منها شيئًا لميّزت بينهما
ربما لو احتاج واهب الضحك والبكاء منّا أمرًا لميّز بينهما عندما نصوت
في الليل تنفتح الجراح
وأسرح في عدّ الأحزان التي لا تنام
ومهارة الكائنات المتمرسة في إخفاء الآلام
ولطف الكائنات في تمييز الأصوات
وعن جدوى الصوت والصمت
الضحك والبكاء
والتمييز بينهما
قوالبَ لصباحٍ راقص
لقد أخذني كل جميل عن رؤية الجمال في داخلي
سرقتني كل التحولات عن معنى التحوّل
عن معنى الحياة
من أن يكون لديك شعوران تامّان متصلان
لا يفصل بينهما لا نوم ولا وهم
ألّا يسرقك الخيال الجميل عن جمال الوجود
ولا يُفقدك هذا الوجود إمكاناتٍ مشابهة
لحدوثه بطرقٍ أكثر جاذبية وسحر
اليوم-فصل الخريف- نداء التحوّل العلني
فرصة تجديد الفرص، تحويل مسار المستحيل إلى ممكن
وترك الحتمي خلف الكواليس
ترطيب الروح بعد جفاف الصيف
أن تحتمل السماء سحبًا
أن تمطر السحب حبًّا
أن تجبر الحياة خاطرك
دون أن تكسر خواطرهم من شدة انشراحك
ألا يتوقف رفيف الأوراق الموشكة على السقوط عن إدهاشك
حتى وإن كانت الأوراق المتناثرة أكثر من الصامدة
وألّا تتوقف الطيور عن أنغامها منذ الصباح الباكر
لأنك لم تنصت للحياة الممكنة خارج عقلك
ألّا تنشغل بأشجانك ومفاصل مقطوعاتك عن التشكل النهائي لإبداع الوجود
كل القصائد هي محاولات فاشلة لحبس اللحظة في كلمات
كل الأغاني هي إيقاعات جاهدة لإدراك التناظر المقدّس
كل الأحزان لم يكن لها من داعٍ لو لم تكن من شخص يتوقع له أن يموت
كل الأفراح هي عزاءات مؤجلة تنهب من الحزن دمعةً ضحوك
فاحتفل بصبح يضحك بك دون نكاية أو معنى
فمن منّا خالٍ من الذنب
ومن منّا خالٍ من السهو
من منّا لا يزينه إمكانية أن يخلد فيموت
ومن منّا عليه أن يحمل أضعاف أحماله كي يدرك معنى الحياة
كي يبدو جميلًا
أفيقي تجديني حلما .. طائرة ورقية
هربًا من مآلات كثيرة وقعت في فخي الصغير، أعددت كل معاولي ومقاصلي، واختبأت عن أعين الأحبة والحرس متترسًا بكلماتي التي لا يفهم معانيها سواي، أسرق من الأيام ذكريات لا يتذكرها أحد معي مخافة التشويه والعبث والابتذال، لم أكن أبدً في حياتي هازل، أينما أحببت بشرًا حنطتهم، وأنطقت كل الجوامد فرارًا من الوحشة، حيث الجوامد وحدها من يسكت عندما نريد، كان في قلبي دوما ضعف لكل الموجودات ذات الإرادة الناقصة، ومضى عمري – كثيرًا كان أم قليلا- غزيرا وافرا مليئا بالدموع والمطر، بللت وسائدي وقبّلت دفاتري وأحطت نفسي بهالات عيني، كلما اقترب أحدهم نبحته، وربما نهشته لأتأكد من خلو قلبه؛ ذلك أنّ خالي القلب لا يشعر بالوخز ولا الخطيئة.
عاندتهم حاربتهم داهنتهم ووشيت بهم كل الذين لم يأخذوني على محمل الجد، راهنت على كل الأيام الغائمة قبل مغيب شمسها وساومت كل أموالي جزاء بئر معطلة سوف تنفجر ينابيعها مع انفجار عروقي. عندما أردت أن أغالطهم سألتهم واحدا واحدا: “وش ودكم فيه”؟ وكانت الإجابات الصريحة تدغدغني، إلا أن الصامتة كانت ما يخيفني جدًا، كلما شعرت بشجاعة فاجعة رأيت قطر دمي يبلل ممشاي.
لم أكن أكتب جملة واحدة مفيدة، جملي كانت تبدو معكوسة وناقصة بخطٍ صغير خجول عجول، ربما هربًا من المفيد وقعت بالمبكي، وخوفًا من الفضيحة والشفقة تعلقت بالمغالط والثائر والمعاند، المفصح عن تواضع، والهارب من القارئ الرتيب. وكانت هي وحدها جمهوري الذي أخاف ألا يبكيه نزفي، وألا يشعر بارتجافة واحدة وهو يأخذني إلى حتفي، بيننا اختفت كل الضمائر ولاحت كل المصائر، كنت طفلاً تارة ومحاربًا كهلاً أخرى، كانت أميرتي تارة وحارستي أخرى، كنت عبدها تارة وسيدها أخرى، كانت ابنتي تارة وأمي أخرى، كان خيط الأقدار يلاعبنا “شبرا أمرا ذكرا أنثى” وكنا نقفز بخفة.
كلما يئستْ أنرتُ لها شمعة، وكلما غضبتُ احتفلتْ بجمرة خديّ،لا أحسب أيامي معها كنت أسارع دائما بانتشال أشلاء قلبي، جعلت لي المسكن جنة من ذكريات وجعلت لها أحلامها الباقية كلمات، الخوف كان يأمرها بعكس مسيرها ومن أجل عينيها أجريت عقارب ساعتي لليسار، فتاة الشمال استعسرت على نفسها وتسلقتُ لأجلها كل الجبال في طريقي. تهيم فخارًا بي وأهيم بنفسي من أجلها، وهربًا من أسئلتها أطرت لها عمري طائرة ورقية، مادام قد انتهي زمن الرسائل، مادام لا أحد يغفر للتريث لمجففٍ قلبه أو نادب دهره، أحب كائنًا يستعجلني إلى حتفي وأنير له كهفي بسراج التجلّد والوحدة.