تمامًا بعد شهر، اتضح كل شيء

كل أحلامي بأبي بعد وفاته كانت تُظهر بصراحة أنّ أبي حيّ موجود معنا رغم حقيقة موته، لا أعرف مادلالة هذه الأحلام، هل يعني هذا أنه حاضر بصفاته التي أورثنا إياها ، أم بروحه التي تملأ جنبات المنزل، أم هو فعلًا قد استحوذ على كل حضور في المكان بغيابه الذي كان بغتة، أكاد أجنّ وأكتئب مرات ومرات عندما أتذكر ذلك اليوم الغريب.. طريقة ذهابه هكذا بكل خفّة وبساطة عن العالم كانت مفزعة بقدر ماكانت مبهرة .. كما كان يجب لها أن تكون يومًا، كما كان يحب دومًا أن يجلس بلا إزعاج ، بدون أصوات ، أو صخب وضوضاء ، غادر وحيدًا مستلقيًا على سريره بطريقته وثنية قدمه وبأدويته المتناثرة في المكان حوله كالمقاتل العتيق المضرّج بجراحاته التي قتلته بعد أن سئم أغلبها منه ومن صموده.

مازلتُ يا أبي طفلًا رغم تظاهري المغرور والمعتد بذاته أمامك بأني أجيد كلّ شيء – خصوصًا كل تلك الأشياء الحديثة التي لا تعرفها – وبتظاهري بالسيطرة بكل مايجري حولي لئلا يُستثار قلقك وخوفك المعتادين عليّ، وفاتني من تظاهري هذا أن آخذ منك المهم والعميق والباقي في النفس بعد غياب المظاهر والقشور. أتعطش لمعلومة أخرى منك خالية من كل أطماع الآخرين ومقاصدهم ونواياهم ، أحتاج لكلمات حنونة رغم قسوة ظاهرها، صافية جدًا من أي شائبة ابتذال أو تباهٍ، مليئة بحكمة السنين من أبٍ ترك العالم خلفه ومظاهره ومناصبه وتمسك بالأصول، مليئة بالخوف على أبنائه كأعظم مايكون الأب، والقلق عليهم كأصدق مايكون الأب، والصبر على الصعوبات والمصائب وقلة الحيلة والحال كأحلم مايكون الأب، هذا ما أعرفه الآن بعد أن كبرت بعد رحيلك سنواتٍ وسنواتٍ.

أنا ضائق بكل ماتحاول الحياة أن تدفعني إليه ، أقاوم بشراسة الأطفال وعنادي الموروث منك، أريد دفعها عني بكل ما أستطيع من قوة، ماقتًا كل المظاهر مثلك، كارهًا تهافت الناس على الحياة مثلك، قانعًا بكل مالدي بل قلقٌ به مثلك، صادقًا بأفعالي دون حاجة للكلام عنها مثلك، وحتمًا سيعرف الآخرون ماقيمة هذا بعد رحيلي عنهم بخفة مثلك.
عرفت أنا جدًا دلالة رحيلك الهادئ ذاك في اللحظة نفسها التي رأيتك فيها ممددًا، عرفت أنّ أقل الأشياء إحداثًا للضوضاء عندما ترحل ، أعظمها أثرًا في القلب، والخفة التي غادرتنا فيها توازي الثقل الذي أحسه بداخلي الآن، وتظاهرنا جميعًا بسهولة الحياة بعدك هو مكابرة على شعور الخسارة القابع كموت بدواخلنا لك.

أحبك بأنفة وعزّة الذي ترك الحياة ولم يرتجِ أحدًا، ولم يطمع بمالِ أحدًا، ولم يسرق أحدًا ، وكان أعظم شكواه لأولاده وكان كل نحيبه إليهم وكان كل خوفه عليهم كأنه يقاسم روحه شكواها ومصابها ونحن كلنا بضعة منك ، أفتقدك أبي ما أعظم فقدي لك وما أعجلني وأجهلني إذ تصوّرت قدرتي على تحمله.

بُعثتُ لأكتب

لست منظرًا عن الفن ولا عالمًا بالنفس البشرية ولا أعرف من الأدب إلا قشورًا أحتمي بها عندما تصرعني رغبة الكتابة، إلا أن جانبًا مني يؤمن بأنه أعظم أديب وأرق فنان وأعلم من كل طبيب وحكيم بتقلبات البشر، ذلك الجزء وحده هو بشكل أو بآخر مايحركني لأن أدفع نفسي لأتعلم أكثر، لأتظاهر بأني أعلم.

أفتقد تواضع الطالب المجد لكني لا أنفك أتصنعه كل ما احتجت إليه، أنا مخلوق جاحد لنعم كثيرة، وذات نُفخت فيها روحًا وظنّت نفسها تملأ العالم.
بشريتي تخيفني كلمّا رأيت الآخرين وتريحني كلما اختليت بنفسي، أستطيع أن أسامح نفسي إذا أخطأت بحقها في خلوتي، لكني أشد من يعنفها إذا كان الخطأ أمام الملأ، لهذا فضّلت أن أضع حاجزًا بيني وبين الآخرين  كي أرتاح من ثقل مسؤولية أن أكون قدوة لهم – بالرغم من أن أحدًا منهم لم يصرح لي بذلك أو حتى يلمح به تلميحًا- أما فكرة أن أكون أبًا فهي هاجسي الذي يرعبني عندما يأتي فعلًا من يعتبرني قدوة له.

أعتقد أن آلام البشر من ظنونهم تنشأ لا من واقعهم، وأكبر كوارثهم هي أنهم على أنفسهم يكذبون أكثر من أي أحد.

إنّ أول مادفعني بشدة للكتابة في المقام الأول رغم اعترافي بأني لا أكتب إلا الترّهات -وهذا أيضًا من قبيل التواضع المصطنع لأن جزءًا مني يرى أني أعظم من كتب- هو أنني أفقد ممانعتي للكذب على نفسي لحظة الكتابة وأعريها بصدق مهيب ومريب، أنا مثلًا على قائمة الخطّائين الدائمين في سجل الذنوب وأفقد قدرتي على التحكم بحياتي ومسارها كثيرًا بسبب من أحب وما أحب، وأميل إلى الغيرة من كل جميل لم أكن سببًا في جماله، وأفتقد طفولتي و بداياتي في الحياة وأحن إلى دهشتي التي شوهها ادّعاء الثقل والرزانة والحكمة، اسمي من الأشياء التي أثقلت كاهلي ، وأخفي من التعليقات المضحكة التي تتزاحم في رأسي الكثير خوفًا من أن لا تضحك أحدًا سواي أو أن تجرحه، وأتنازل بتخفف مخيف عن أعظم مالدي لإثبات أني مستقل عن كل أحد.

لدي عقدة من الأطباء وفي قلبي عقدة لأحدهن، ولدي خوف من الخطأ رغم أني لا أجيد سواه، وتأتيني لحظات من التجلي الإلهي أخشى بعدها من العودة للحياة إلا أني أعود لأفاتح نفسي وأفاوضها بأن الطريق إليه يبدأ من معاركة الحياة وهزيمتها بعد أن أٓخبرٓها.  لقد وهب الله لكل منّا عمرًا يتناسب مع إدراكه لجوهر الحياة حتى إذا أخذه تكون حجة الانكشاف قد ثبتت عليه، فأوائل من يموت منا هم أكثرنا عبقرية في سرعة معرفة الحياة، ولا يطول عمر أحدنا إلا لإثبات حجةٍ ما عليه، ولا يبقى بعد موت العارفين إلا الجهلاء، والأتقياء إلا الأوغاد.

أعلم يقينًا أن الله يبعث الموتى من مراقدهم ليحاسبوا، لأن الله يبعثني من مرقدي لأكتب، كتابةً تخيفني قبل أي أحد ولا انفكاك منها إلا إليها، هذه قصتي مع الكتابة: فضيحة أداريها عن الناس لكي أكتبها إليهم، ورسالة بُعثت بها حجةً لي على نفسي، ودواءً أستطب به من ضياعي وغفلتي، وحاجةً في نفسي قضاها ربي رغم أني ذو جهل لا علم.

كلمات

حبي لها معراج نحو الكمال، هذا السمو في قربها يشابه شعور الاستيقاظ من حلم جميل دون أن تنام، سعادة من غير سبب منطقي، وانشراح لا تعرف عنه شيئًا يكدّر صفوك به، سعادات بعضها فوق بعض.

اتحدنا قبل أن يُشاع الخبر، و ارتكبنا حبنا قبل أن يؤذن لنا به، واستمتعنا بالحياة كوحيدين عرفا لأول مرة شعور الأنس بالبشر،غرقنا في التفاصيل الجميلة حد الثمل، تنفسنا الصباح كأن العمر ليلٌ مقيم قبلها، وتلحفنا ببعضنا كأن الشتاء لايزول، وعشقنا الليل كأننا ركضنا ألف ميل دون وقوف حتى تلاقينا في منتهى الطرق وملتقى المفارق لنحضن بعضنا، كحلاوة الراحة بعد التعب، وكسعادة النجاح بعد الكدّ، ولذة النوم بعد السهر، وخطورة الغضب واليأس والجفاء، وسعادة المطر، أنت الرواء والليلة المقمرة، مفرداتي تصطف منتشيةً لوصفك وأجد صعوبة في الاختيار، أحاول جمع الأضداد وأسرد الحقائق وأشبّه وأجانس ولا تخلو كتاباتي من الطباق، أصب فنوني لأجل فتوني في قالبٍ واحد، هو الامتنان والكفاء والتسامح مع كل ماضٍ مؤلم، والتجاوب مع كل آتٍ ملهم.

الله خلق المسيح بكلمة منه، وخلق الكون بكلمة منه، وخلقني وإياك بكلمة منه، وعبثًا أحاول أن أجسّد شعور الفرح بك والهيام بعينينك وجمال نطقك ورقتّك بكلماتٍ مني، وما استطعت أن ألامس شعوري أو أدنو منه، أنت خرق القوانين وعبث الأولويات واستثناء العمر وسلاسة دخول الليل على النهار وهدية الأقدار وتحية السلام لي وتفاؤل الطير في الأبكار والورد في الأشجار، والغوث لجدبي، أقف مستسلمًا لك متعبًا من صعوبة وصفك كالعادة، أنا بكل لهثي الآن أحبك.

سيكولوجية الألم

بئرٌ قاحلٌ من الأحزان أنت
لا غيم يهطل فيرويك ولا ماءٌ من باطن الأرض يتداركك فيحييك.
أفِق أيها الألم مبكرًا، قبل أن يفوت أوان العلاج
أفِق قبل أن أضطر للتعايش معك مكرهًا
لا تأتني بعد عمر من السعادة الموهومة هذا قاصمٌ للظهر.

من بين كل عشر إصابات تحدث لك:
ثمان جسدية، وواحدة عقلية، وواحدة مشاعرية
يحدث أن المشاعرية وحدها تؤلم أضعاف غيرها، هي من تغير مسار حياتك.
في زمنِ مضى كنت كرمةٌ يتواعد عندها الأحباب، ماذا أصابك؟ مم تشكو؟
يكاد كل ماحولك يحكك كطفح جلدي، كنسخة شرسة معدلة من الجدري فرّ من براثن اللقاح،
ياصاح تبدو أكبر بعشرين سنة، ما فعل بك الألم؟
كنت بالأمس وردة متفتحة مالذي دهم؟
روحك التي كانت تشرق منها سبحات وجهك اسودّت، يارب الألم المباغت
كيف نجا من نجا وأنت له في المرصاد؟
إنك تختبئ في أحداث الغد، على الأرصفة، بين الشرفات، بين الوجوه وفي الممرات، من أحياك بعدما أماتك؟
كل ألم محتمل إلا ألم روحك، لن يهدأ حتى تشغله بقرارت مرعبة لم تكن تظن يومًا أنك ستتخذها، وتتخذها فقط لإلهاء روحك عن الألم والهم.
خوفٌ يطوق ابتسامة الجاهل حتى وإن لم يره أو يشعر به، كل عارفٍ سواه يراه ويشفق على حالك قبل أن تلقاه
هو وحده الألم من يصيبك بالجنون بالفنون بالهرب من كل ماكنت عليه بالأمس
هو القوة الخفية التي تنسل لروحك في قمة سعادتها فيجتاح ربيعك، يجفف وديانك، تذبل معه أغصانك
حيّ ضحكتك القديمة أين انطوت، في أي نكبة خفتت ثم انتهت، تتصنع الإعياء ومابك إعياء، تصانع الحرقة وكلك اضطرام
جنونٌ يعتري صمتك، وضجيج يكتنف حكمتك، انتكست المفردات وتضادت المترادفات، كل شيء حولك هلك، تهالك ثم اندكّ بسرعة جنونية
أبيتَ اللعن أين أهلك ؟ ، أين أمك وأبوك ، أين ذاك الإيمان الذي هذّبك وربّاك، تتسارع الكلمات من فيك، لتشي بكل مافيك
صامدٌ أنت، ومابك من صمود، تبدو واجمًا كجلمود، اهمس لو بكلمة، تخفف من أثقالك، كل من في هذا الحزب من البشر أعوانك، أمثالك يعدون بلا توقف، ملؤهم السأم والتأفف، مرغمين على المسير بلا هوادة، رافضين كل أصناف البلادة، نسوا كل ماحفظوا من عبارات التطمين وتلقنوا مفردات الهلع من الجلادة إلى الجلادة، في لغتك انكشاف وسخرية وكوميديا مبطنة.

يا إلهي ماذا كتبت ، كيف نمت وحلمت بكل هذا الغثاء من الكلام، تبًا لسيكولوجيا الآلام، كم تعرّي، كم تبكّي.

كامنُ نفسٍ إلى من هيّجه

قدْ يتعبِ الليل ُالطويلُ ..
قدْ تسأمِ الثكلى العويلَ ..
قدْ يهتدي الملك الظليل ..
قدْ , ربما , قلْ أين الدليل ؟!

هلْ يهتدي من لا يوحدْ ؟
هلْ يقتدي من لا يمجدْ ؟
هلْ يعتلي من لا يسدد ؟
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

فيّ كل قافلةٍ ثمار ..
ولكل فاتنةٍ خِمار ..
وفي العالمين لك افتكار ..
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

قالوا وقلنا وانبَروا .!
حاروا وحرنا وانْثَنوا .!
مالوا وملنا وتعلَموا .!
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

قد حباك الله عقلاً .. وميزك .
قد جزاك الله فضلاً .. وعززك .
قد هداك الله حقّاً .. وقرّبك .
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

في هذه الدنيا تجارب ..
وحولنا أيضاً عقارب .!
ولكلِ ناصيةٍ مآرب ..
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

جارتْ بنا الأيام دهراً ..
وعدلتْ بنا الأقدار يوماً ..
فما هذا عنها بغريبٍ ..
فهذا طبعها يوماً ودوماً ..
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

لن أنامَ ولن تنامْ ..
لن تستيطعَ ولا أُلامْ ..
طبعك اليوم وطبعي ..
أنْ نقودَ ولا انهزامْ .!
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

في قادمِ الأيامِ إبشرْ ..
في دمي العلياءَ فـ شمّرْ ..
وفي صدقكِ الطاهرِ إمْضِي ..
فلسوف تظفرُ وأظفرْ ..
إقرأ , تعلمْ , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

لن أستغنِ عن القلمْ ..
ولن أتوارَ عن الأممْ ..
ولا أظنك مختلف .!
فلكل واحدٍ منا عزمْ .!
إقرأ , تعلم , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

قدْ أسلكُ الدربَ الشائك ..
و أنت في دربك سالك ..
جلُّ الصعاب ستستبين ..
إن كنتَ قربي أو بحالك .!
إقرأ , تعلم , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

أكادُ أراكَ تعتبْ .. 
ولربما هممت تغضبْ ..
حاولت أسردها حالاً ..
وتأبى نفسي إلا أنْ أكتبْ ..!
إقرأ , تعلم , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

أنا هنا , أنا ساعدُك ..
بجانبك وأساعدك .. 
قدْ أغفو يوماً أو أنام ..
ولكنني أنا حارسك .!
إقرأ , تعلم , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

لن يجلبَ الفقرُ مالاً ..
ولن يُصلحَ الجهلُ حالاً ..
وسنصبحُ أغنى الأغنياء ..
إنْ نتجاهل قيلاً وقالاً ..!
إقرأ , تعلم , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .! 

شابت بنا الأيام شبابا ..
وطاشت بنا العقول ألبابا ..
وخذ هذه مني ياصديقْ ..
[ سيشيبون يوماً ونحنُ شبّانا ] .!
إقرأ , تعلم , وأصعدِ , فلربما أنت المجدد .!

فُتنّا ، والفتنةَ أشدُّ من القتل

أكاد أفقد ما يربطني في الدنيا إذا رأيتك , وسعيت لأن أصل لمكانك وبيتك , الرائحة التي تأتي منك عبير أخّاذ , والصورة التي تشاهدني وأنا أسافر مع طيفك ترى في عينيّ الملاذ , الحكايا لا تكذب وإن بالغنا فيها , و قلبي لا يكذب وإن بالغ في وصفك , الجمال قطعة من خيال , جنونٌ يتعدى كوننا يصل إلى أفقٍ أبعد من سمائنا , يسافر مع الريح خلف الأصوات إلى عالم لا يسكنه البشر بأجسادهم , فقط تسافر إليه أرواحهم لبرهةٍ للحظةٍ لمجرد شهقةٍ أو زفرةٍ , لمدةِ ارتجافة أو عبرةٍ ونعود للأرض بروحٍ مغايرة , بأنفاس متطايرة , بترنيمات حائرة , بذكرى العيد واللبس الجديد وغناء الجدة للحفيد , بصلاة الاستسقاء بانهمار المطر , بلذة المناجاة في السحر , بلحظة التقاء العينين بعد غياب سنين , برجفة تسري فينا بعد أن هدأتِ الأصوات , بتسمّرنا لساعات أمام المرآة حين نمتدح بشيء فينا من قبل محبينا . 

أخبري الأيام أن تبطّئ المسير , وخذيني أو انهبيني أو اسرقيني لا أبالي بالباحثين ولا برجال الشرطة المترصدين , ابتعدي فيّ عن العيون , قاتلي الأشواق باللقاء , بدّدي الصدود بطول البقاء , أسمعيني أنغام السَحر , تراتيل الناسكين من البشر , ألبسيني طمأنينة الموتى , جردّيني ثياب البائدين , لحظةُ اللقيا دهر , أجمل لحظة في العمر , ارتعاشةٌ فاستفاقةٌ فانحناءةٌ فغيابٌ بعده غياب بعده غياب , ليتنا لا نعرف طريق الإياب , ليتنا أكلنا فتات الخبز , ليت أنّا انشللنا من العجز , ليتني أتقن فنّ الرجز , ليت صوتي مزمار من مزامير آل داؤود , لأخبرك عن سرّ يزلزل كياني , يميتني ثم يحييني ولا أكاد أبالي , ليت لي نبرة تضعفك , ترهقك , تتوغل فيك فتأتي بك على غفلة من زمن , جاءت اللحظة التي أخبرك فيها عن سرّي المؤتمن , أين أنتِ ؟ أين أنا ؟ أيننا ؟ أين كان هذا السنا , لمَ لمْ يسطع قبل الرحيل , لم َلمْ أستمع إلى هذا الوعيل ؟ , لاتموتي فمكانك في قلبي لن يموت , لا تتحايلي فروحي لاتحتمل مزاحك الجميل , هل نفيق من هذه السكرة ؟ هل بعد الحب شيء يستحق أن نذكره ؟ , هل عندكِ أدنى فكرة ؟ كيف تركونا نتمرد هذا التمرد ؟ , أنا ألومهم على هذا التجرّد , تركونا وحيدين وأنا وأنتِ لا نُترك وحيدين , أنا نارٌ وأنتي حطب , أنا سيفٌ وأنتِ محكوم عليك بالقصاص , أنا طفل وأنتِ دميتي ليس لك قيمة بعدي , وليس لي فرحة بعدك , أنتِ أنا , بربك هل لك بقربٍ أكثر من أن تكوني أنا ؟ .

فُتنّا والفتنةُ أشد من القتل , اللذة التي تجبرني على أن أدمنها سوف تنسيني مكاني , الكتابة التي أدمنتها فيك سوف تفضحني حول أقراني , التهور الذي يأتيني بين يديك سيكلفني عمري , الحياة خيارات عدة , ومسلكنا واحد ليس لنا عنه حيدَه , كنت أتمنى أنّي لم أعرفك , فأصبحت أجزم أنّي لا أعرفك , كنت أتمنى أنّي لم أركْ , فأصبحت أجزم أنّي لم أرى أحدًا غيرك , كنت أتمنى ألاّ أخبرك عن حبي , فأصبحت أجزم أنّي خُلقت للثرثرة عندما رأيتك , كنت أتمنى أن نكون معًا , فأصبحت أجزم أنّه ليس لنا من خيار إلا أن نكون معًا . 

سيري إلى دربٍ براح , سأواجه معك كل أصناف الرياح , باعدي بيني وبين المطامن , ليس لنا بعد اليوم إلا المطاحن والطواحن والملاحم , اليوم فقط آمنت أن في الحب جهاد , وأنّ ثباتي أمام عينيك جهاد , وأنّ إمساكي بروحي خشية أنْ تتلبسك جهاد , وكتماني لضحكتي أمامهم حين يتحدثون عنك جهاد , وسفري بعيدًا عنك لأعود إليك جهاد , و أنك جهاد يستحق أن أجاهده خفقةً بخفقة , شهقةً بشهقة , دقّةً بدقّة , وياليت الموت يعرف بعد هذا أني لم أعد أخافه كخوفي من بُعدِك , والعيش بَعدَك , والتحامي بالمارّين بدربك , أنا … بكل جوارحي أحبك .

ذاكرة فظّة / زوروني كلّ سنة مرّة *

تجتمعُ الخرافات في عقلي حتى نسيتُ الحقائق
بالضبط كما تكاثرت أطيافُكِ حتى كدتُ أنسى وجهكِ .

وجهكِ الذي يرشدني كيف أتذوق
كيف أترنم .. كيف أطرب .

وجهكِ الذي يرصفُ الطرقاتِ بالورود
وينخرُ الأخدود
ويسيّرُ المراسي والسفن ويعبرُ الحدود

وجهكِ الحكاية التي لا تنتهي ولم تبدأ
القضيةُ التي استفزتني ..
والمرضُ الذي لازمني ولم أبرأ
المخدرُ الذي ناضلتُ لأمتلكه بنفس العزم الذي ناضلتُ به للإقلاع عنه

وجهكِ السماء ولا تكفي
وجهكِ الفضاء المرئي واللامرئي
وجهك الأنحاء
تأشيرة العبور والحبور
فرح اللحظة .. سريان النشوة في المكلوم
سريان الروح لأصحاب القبور

وجهكِ الذي لا يعرف نفسه كما أعرفُه ، ولدتُ وفي ثغري سؤالٌ لم ينضجْ ،
حين رأيتُ وجهكِ نضجّ وضجّ في الأرجاء يبحثُ عن إجابة ومايزال .

وجهكِ ذاكرتي وعنواني ، منذ عرفت البشر وهو أمامي
حينما أرسيتُ حدود الجمال كان إلهامي
سرّي ونجواي ، نشواي وخصامي
جنوني وعافيتي ، تمرّدي واعتصامي
شعري .. قافيتي
عصاي التي أتوكأ عليها وخَطْوَ أقدامي
غايتي ومرامي .. آمالي وأحلامي .. حربي وسلامي
غطرسة اللغة في قلمي .. تحررّ الحضارة
أصواتُ أطفالِ الحارة
غبتُ عن الكونِ حين رأيتُه وحارت أفهامي

وهذا حالي مع حالي في حالي .. كلما حاولتُ العبور عبر وجهك نحو الضفة الأخرى ، تغتالني ذاكرتي الفظّة
تحمّلني فوق طاقتي ، تسحرني بالأسئلة ، وتعرف هي كما تعرفين أنّي رجلٌ تشدّه الأسئلة ،
عقلٌ يحبٌّ الاستطراد .. يعشق الفاصلة، ووجهكِ حقل مدججّ بالألغام ، بالاستفهام ، ومساحة حرّة للسفر والتعبير والاستمتاع بالنظر

لغز الحياة في عينين .. وشمسُ الصحوِ في الجبين
شموخُ أنفْ .. وثغرٌ فوق الوصف
شعرٌ أليل .. ورمشٌ أكحل
رقبةٌ وجِيد .. وصوتٌ يعلّقُ القلبَ على رأس إبرة إذا همّ بالتنهيد

هذا صفيرُ الروحِ قدْ أسمعَ .. وهذه الحروف قد اجتمعت لتُقنع
وهاهو وجهكِ .. وجهكِ الذي تورطتٌ به لا يتسرّع ..
يزورني كل سنّة مرة ولا يخاف أن أنساه بالمرّة !

منْ يعلّق الجرس ؟

صورة

 

تقول الحضارة اليونانية القديمة : ” الكون بما فيه متغير بأسباب ولا بد للمتغير من أصل جامد ولا بد للأسباب من مسبب , و طالما أن الكون يتغير فلا بد من أداة لقياس ذلك التغير , إذًا فالزمن ليس أصل إنما هو نتيجة , لا يؤثر إنما هو فقط أثر ” .

منذ متى تعرفني ؟ سألتني بأداة الزمن وأجبتك بإجابة تخلو من الزمن , تخلو من الملامح , تخلو من الأسباب , أجبتك بلا أعرف والحقيقة أني لا أعرف أخلقت قبل أن أعرفك أم عرفتك عند ولادتي أم ارتسمت ابتسامتك في مورثاتي مع لون شعري وعيناي وباقي صفاتي , لم تقنعك إجابتي توقعتِ أني أبالغ , في الحقيقة هم كلهم يخبروني أني أبالغ في بعض الأمور , اعتدت هذا الاختلاف , واعتدت أن أفكر فيك ولا أجدك , واعتدت أن أحلم بك ليلًا ونهارًا نائمًا ويقظانًا , في خلوتي وعند سلوتي لا أجد إلا خيالك , كان من الأجدر بك أن تسأليني كيف أعرفك ؟ لأجيبك بقلبي , ثم تتبعينه بهل تعرفني ؟ فأجيبك أنا أعرف صورتك في خيالي ومنامي ولا أدري أتكفي لي لكي أضرب بالقوانين والسنين والملايين من المحملقين والمتملقين والشامتين والعاذلين والمتسائلين عرض الحائط , وأجازف بأني أعرفك ؟ , لا أعرف . 

كانت سنة بالضبط سنة , ها نحن نعود لأدوات الزمن ومقاييس الوجود كي أحصى الغير معدود , كم مرة يجب أن نصطدم بالقوانين الأرضية كي نعبر عن حبنا السماوي , سنة أخبرتك فيها مرارًا أنها بألف , أني عشت فيها من التقلبات مالم أعشه في عمري , تمرغت في الوحل , قارعت الثريا , صرعت الغول , هزمت المغول , وانهزمت من امرأة , وتهشم فيها قلبي , اتسخ فيها منطقي , ارتسمت عليّ محياي ابتسامات لم أعهدها , كل يوم كان فصل من رواية , كنت أعيش الحكاية كل الحكاية بالتفاصيل , أعرف أن لها نهاية , وأيّ نهاية , المرارة هي ما يستحقه هذا الجموح دومًا , الالتصاق بجدار العرف , الاصطدام بسور العادة , الاختزال من اثنين إلى واحد يحتاج إلى طاقة تفوق طاقة الهواتف والمراسلات يا صغيرتي , تفوق قدرتنا على المحادثة , تفوق رسائلنا البريئة – الجريئة – , كانت سنة لم يُخطط لها , حتى النهاية كانت متعلقة بالزمن , وسندفع حتمًا الثمن .

البشر نوعان : نوع ينتظر والآخر يقرر , كلاهما سينتصر مرة ويخسر أخرى , لكن الأول ترك للآخرين تحديد مصيره , والثاني اختار مصيره بنفسه , قلت لك مرة : لو افترقنا باختيارنا بقرارنا لهو أهون لي من أن نُجبر على ذلك بفعل فاعل , لا أحتمل أن أكون حائرًا في قمة اليقين , لا أستطيع أن أدعي السذاجة وفي عقلي اتّقاد , ليس لي قدرة بأن أراك تذهبين و أدعي أن عيني تؤلمني بسبب دمعة خائفة منهم , أأخاف الفضيحة في حبي ؟ , أأخشى المواجهة في أمر قلبي ؟ , لا أحتمل الإجابات المطولة للأسئلة المغلفة بنكهة الشك والتشمتّ والتي لا تكاد تنتهي , أعرف أنك تكرهين هذا الجانب منّي , أعرف أنك لا تحبين جانبي المنطقي الذي يفكر بعقل , أحب جنونك , جنوحك للحظة , لليوم , بدأت ألهث من سرعتك في نسيان الواقع , بدأت أُحبط من قدرتك على استعادة كبريائك المحطم بعد لحظة انحطاط , أنا لا أعرف لي سوى كبرياء واحد إن تحطم لن أصبح إنسان بعده , أنا لا أعرف لي سوى قلب واحد ابتعته أنتِ للعمر كله وانتهى أمره , أنا لا أعرف إلا منطق واحد يخبرني عن الصح والخطأ حتى لو تباعدت بي الخُطا , مثلًا لدربك ! , لا أعرف لي إلا أمانًا واحدًا انهتك مرة فتعاهدت نفسي أن أحفظه ماحييت من أي شيء . أرجوكِ لا تلوميني على عدم اطمئناني ولومي نفسك على اتكالك على مخلوق أحلف لك أنه أضعف منك , خصوصًا عندما يتعلق الأمر بك ! .

الوداع كلمة صعبة ليس لي أن أجزم بحدودها , بدايتها , نهايتها , مدتها , تلك التفاصيل المتعبة دائمًا أجعلها لخالقي الذي يعلم مايحسُن لي ومايسوؤني , إلى اللقاء ؟ حتى هذه أصعب من سابقتها , أي لقاء سيجمعني بك بعد أن حزت منك مالم يخطر علي في أجمل أحلامي فخسرتك ؟ , أي لقاء ذاك الذي يحمل أحزانًا متراكمة , يحمل أرواحًا مثقلة بالعديد من الخيبات , أي لقاء أرى فيه عينيك بلا ذاك البريق , لو كان خياري لما طلبت اللقاء , فقط سأقول بحفظ الله , الوحيد الذي أتأكد بأنه لن يخذلك إن حفظك . 

أسئلة

لم آلف وحشةً كهذه كي أعتاد حديثًا كهذا ، لم أعد قادرًا على مجاراة سيّال الأشواق يقدم من غيومك التي تهطل مرة وتمسك ألفَ مرة ، لم أكترث لشأن أحدهم بهذا القدر كي أحترف التصنع والتزلّف والتزلّق في حديثي معه ، كل الذي أعرفه أني أكبح أشواقي عنك فتنسل من بين أضلاعي طائرةً خاضعة مسلّمة لسلطان عينك ، كل الذي أملكه جوارح أقصرُها عنك وعينًا تغضّ البصر عن فتنتك ، وإن ملكتُ ما ملكتَ فلن أملك قلبًا حام حول الحمى وقع فيه ولم يبالِ بعواقب النظرة ومايعقبها من حسرة و هواجس لا تُعدّ مما أصابها من بركات الكثرة .

أتُرانا نُمسك الأقدام فتخالفنا خطى القلب وتعصينا لترضي رغباتها ، أتُرانا نَنْهى الخاطرة فتعقبها الفكرة والخيال فالإبحار في الخيال من تفاصيل اللقاء إلى معجزة الخلود والبقاء ونرتب أشياءنا بعضها فوق بعض ، حاجتي وحاجتك ، غايتي وما توافق معها من غايتك ، وأظنّ أن ما أصابني سيجعل غايتي هي غايتك ورضاي في سلوتك وطمأنينتي في قربك والأنس بك .

تخففي من الأسئلة ودعي الإجابات لي أنا أرتبها من عمري، مما جمعتُ من الأيام ، من طول صبري ، من صدقي مع نفسي . إن سألوكِ يا حبيبتي قولي يجيب هو عني وهو كل ما أقصد وأعني وأنا عصفورته التي تحوم فوق رأسه في النهار أسليه بشدوي وفي الليل أسليه بشغل فكره بي ، ولا تستعجلي إجابةَ سؤالٍ قبل أن آذن لك فالفراغات لا تُلاحظ حتى تُملأ ، دعي مكاني فارغًا حتى أملؤه بالإجابة الصحيحة .

أما عن سؤالهم عن حالك فأجيبي : كحال من أحب . عذبنا الليل أرقّ أجسادنا ، و زاد من اتقاد عقولنا أرانا منّا خفة روح ووطأة شوق ، أوغل في أعمارنا فاستخرج الشيب منّا شبابًا وسبر أغوار الحكمة فينا فتيانًا .

وإذا ما سألوكِ عن مآلك فبادري : ماقضى ربي علينا خير لنا ، وقسمة الله فيما أعطى عادلة ، أرى عدل الحياة معه فلم أرى ولن أرى غيره ، وأرى عدل الحياة بدونه فأعرف كيف يكون الحزن أسلوب حياة وطريقة قرب من الله . فإن كتب ربنا لنا قربًا بعد غُلب كان هذا أدعى لأن يدوم ، وإن كتب ربنا لنا بعدًا بعد توق فقد علمنا أن هذه الحياة لم تقوَ على أُنس الأنبياء ولا إسعاد الأتقياء فكيف بنا نحن الأشقياء ؟ فلا على حياة نبتئس وفي دار الجزاء لنا عقبى .

وعن الحب إن غمزوك فتمنعي ثم أجيبي : أحبه ولا سلطان لي في هذا ، أحبه وللقلب اختياره ، أحبه والكون هذا فُطر على الحب والمحبة ، أحبه ولا أتقي حبّه ومن يضمن لي إن اتقيته ألا أصطدم به في أول مفرق طريق فتفضحني شهقتي ويروع أهلي منظري ، أحبه والحروف لا تكفي لوصف العذاب بقربه وفي البعد عنه ، أحبه وغيرتي عليه نار وسؤاله عنّي جنّة و صدوده عني احتضار ، أحبه ولا يحاسبنا الله عمّا في قلوبنا فلا تطيلوا الأسئلة .

وعن أوصافي إن سألوك لا تجيبي فهم ما سألوا إلا ليروا عثرة وكلي عثرات ، وأول من يعرف عثراتي أنتِ ، وأكثر من يحصي زلاّتي أنتِ ، وأعلم الناس بضعفي ياضعفي أنتِ ، لكن حبك لي يغفر لي وحبي لك يسمو بك فوق ظنوني وفوق كوامن حسرتي وفوق شكّي وغيرتي .

وإن سألوا عن اسمي فاغمضي عينيك حتى لا يقرؤوا اسمي ، وقولي حروف اسمه كثيرة وأخشى أن أتعب في سردها وكنت أتخفف فيها فأناديه بثلثها وبأحب الحروف لمسامعه وأتغنج بنطقها فأرى بحة صوته قد زادت فأعلم أن جزءًا آخر فيه قد ذاب وأنه من نفحة الهوى قد اكتوى ثم طاب وغاب عن هذا الكون غاب ! .

بعد هذا تعذري وتململي وتبرمي فما بعد هذه الأسئلة إلا مافضل وزاد ، وماللفضول كنتِ تجيبين بل للثقة والثقة وحدها من ستوصلني إليك فأسألكِ أنا : أتحبينني ؟ فلا تجيبين فأبلع ريقًا وأصب عرقًا وأكتم شهقة فتضحكين وتستحين وأصبح أخف مخلوقات الله وأتحرر من الجاذبية والأعراف الغبية وأرى في عينك تلك اللمعة التي تسبق الدمعة وأحضنك والناس نيام وأجمع كل حنان الأرض فأوسدك صدري وأتوسد الحصير من تحتك .

أنمتِ ؟

نصٌّ مؤجّل

صورة
الآن : 

فاقت أشواقي الأشواق , وصلت لحدود الاحتراق , أول ما يضطرم فيّ قلبي , آخر ما يحترق فيّ عيني , ما أعظم عذاب من يحبك , تجمعين كل الشجر الأخضر الموجود في الكون وتنتقين بعناية زيته لكي تسكبيه على روحي الهائمة العائمة في محيطك وتتفنين بإشعال الكبريت تأخذين أول عود ثقاب فترمينه لأنه لم يعجبك شكله , تأخذين الآخر تتفنين في إشعاله فترمقيني بنظرة خبث فتطفئينه بفمك بحركة تظنين أنها ظريفة وأظن أنها مرعبة , حين هممتِ بإخراج الثالث أظنك مللتِ من اللعب معي فرميتني بالعلبة وأنا أرتجف وتركتني بين حطام روحي وجسدي المبلل بكل مواد الأرض القابلة للاشتعال وتركتني عرضة للاشتعال بعد ما هيأتيني له ! .

بعد سنة : 

أبعثر أوراقي بمنتهى الفوضوية كي أرتبها بعد ذلك ورقة ورقة بالترتيب المتقن , بالتفصيل الممل , أحملق في نصوصي التي كتبتها لك كثيراً , أمتلك ثروة من العبارات الباذخة المستسقاة من بريق عينيك , أمتلك ثورة من المشاعر تنتظر إذن الانقلاب على جميع أعراف عقلي , أمتلك مقتنيات أثرية اكتسبتها من ذكرياتي معك في أيامٍ خلت , مضت بكل مافيها من أعمار , أسرار , أفكار , وبقي لدي نسخة مصورة من صك ملكية أحفظه في خزنة قلبي بأنك تملكين كل مافيه أصبحت باهتة بعد سنين من الجفاف , تكاد تتكسر من اليبوسة , في كل يوم أتفقدها وأتمنى يوماً ما أن أجد النسخة الأصلية من الصك , أتمنى أن أجدك مكانها .

بعد سنتين : 

أفتعل صمتاً يميتني , أفتعل سكوناً لا أتقنه , أتصنع حكمة لا يمتلكها مثلي , أختلق ذكاءً في كل لحظة غباء اقترفتها جوارحي , أحاول أن أواسي نفسي بأني سأصل إليك , بأني سأمتلك جسدك يوماً ما , كما امتلكت قلبك , نعم أريد أن أمتلك جسدك , أريد أن أتمكن من صورة روحك التي تعني المادة في هذا الكون واسألها , ألا يكفي روحاً أحبها , لكي تمتلكي أعظم عينين ؟ , لكي تنسابي من بين أصابعي بكل ليونة ؟ , لكي أجد في وجهك أجمل منظر لم يره أحد غيري قط ؟ , لا أظن أحداً يعرف كيف يراك مثلي , أنا الوحيد في هذه المعمورة الذي أستطيع أن أراك كما تستحقين , أنا المعتوه الوحيد الذي اكتشف كنزاً فأتى البشر إليه ليرهنوه بثمن مؤجل , قالوا أن نصيبك من هذا الكنز هو الصبر , و إن صبرت بما فيه الكفاية فهو لك مع الصبر ! , كنت تحت تأثير الحمق يا حبيبتي فاعذريني , مازلت أبحث عن طريقي إليك لا تيأسي . 

بعد خمس سنوات : 

أتذكر أول خصلة بيضاء تداعب شعر رأسي في مقدمته , لا أدري كيف كنت مسالماً معها إلى هذا الحد ولم أخف منها أبداً , كل هذا كان بسببك تفردها يذكرني بك , أحياناً أتوهم بأني مجنون فحتى النملة يا حبيبتي التي تمشي على الأرض تذكرني بك , بيتي , سريري , وسادتي , محفظتي , عطري , أصدقائي , الجو , الأرض , النوم , الكتاب , الأدب , الشعر , أنا , كل من هؤلاء يمتلك صفة مشتركة معك , أصبح هاجسي أن أعرف كيف ترتبطين أنتِ بهذا الكون لأني أظن بل متيقن أنك لست منه , أنتِ من عالم يُقال له عالم الجمال , عالم الكمال , عالم الفتنة , عالم من يستطيع أن يعذبني أنا وحدي , عالم تمتلكينه كله أنتِ , يقولون هم أنك ستتزوجين قريباً بعد هذا العمر وأشك أنك ستتركيني أرجوك ياكنزي انتظريني بقي لي مسار واحد لابد أنك فيه , فقط مسافة الطريق . 

بعد عشر سنوات : 

هذه المرة رسالتي ستكون لي فقط لأن أسلي بها ذاتي , لن أرسلها مع البحر ككل مرة لكي تصلك أينما كنتِ , أخاف أن يراها زوجك فيقسوعليك بسبب مجنون عرفته في يومٍ ما وانتهى الأمر ! , نعم في يومٍ ما أليس اليوم في عالمك ذاك بـ عشر سنوات ؟ , يقولون أنك تزوجتِ وأنجبتِ , وأنا لا أصدق مايقولون , هم لا يعرفون أنك ستكونين لي وحدي فقط , حتى وإن تزوجتِ حقاً فزوجك لن يكون رجلاً سيصبح زوجك مثل زوجتي , ألم أعرفك على زوجتي ؟ , إنها المدعوة ” أرق ” , أصبحت تلازمني كثيراً مؤخراً , تزوجتها رغماً عني بالضبط كما تزوجتِ أنتِ , وأُجبرت على قربها في كل ليلة , أضاجعها ليلاً , وتختفي نهاراً بعيداً عن الأنظار وهي تتوعدني بليلة مثيرة في الغد , لم أحبها أقسم لك بهذا لكني تعودت عليها أصبح بيننا علاقة يُقال لها علاقة شقفة ورحمة , لم أنجب منها أولاداً كثر , اللهم ولد يقال له ” تعب ” وأنثى لا تهدأ ولا تكل أسميتها ” لا مبالاة ” , وأتمنى ألا ننجب غيرهما , أخبريني عن أولادك ؟ 

بعد عشرين سنة : 

الأربعين متعبة يا صغيرتي [ مازلت أسميك صغيرتي حتى وإن أتممتِ السادسة والثلاثين ] , كانوا يقولون أنها سن التصالح مع النفس , سن تصحيح الأخطاء , سن كمال العقل والنضج والحكمة , مازالت أشواقي تتأجج , مازالت أنفاسي تتبعثر كلما سمعت حرفك الأول , فكيف بمن يتسمون باسمك ؟ , متعب أن تمتلك سراً لا يكاد يفارقك يعصرك ويسقيك من عصارتك يتملكك يرميك فيحملك يتسحوذ على كل تفكيرك , سري هذا من أنا متأكد أنه جنيّ يتلبس كل يوم بصورة جديدة بهوية جديدة وفي كل مرة يصيبني بذات الجرح لا أكاد أتعظ , لم أعد أصلح لشيء , كنت أمني النفس أنني ربما لو صبرت لظفرت بغيرك , لكن نصيبي من الدنيا أظن أنه لا شيء , أثق أن الله سيعوضني خيراً يوم ألقاه , وهذا كل ماتبقى لي من عزاء أؤمن به تارة و ينسيني إياه الشيطان تارة أخرى , حديث الأربعين يا صغيرتي حديث يحوفه الموت من كل اتجاه وكأننا نبدأ بالتوريث من الأربعين , نوزع أملاكنا , حكمنا , نصائحنا , نحاول أن نصلح أخطاءنا , نجتمع بكنوزنا التي أضعناها ! ولم أحصل على كنزي حتى الآن .

بعد ثلاثين سنة : 

هذا عمرٌ طويل لأعيشه بدونك , أظنني سأموت قبل هذا إن لم تكونِ لي , تأكدي أنّي مت بحرارة حب تعدل بل تفوق حرارة اللقاء الأول , متّ ولم يشفى غليلي منك , متّ ولم أجد كنزي بعد .