الموت كائنٌ كبير
ونحن أبناؤه
بأفواهنا الضاحكة
وعندما تحسبنا في صميم الحياة
يجرؤ هو على البكاء
في داخلنا.*
قلوبٌ حارّة تحييك بعيونها الرطبة، هذا مايسليك في كل أيامك الطويلة، كانت الحياة بلا قلم ولا ورقة، وماكانت الحياة لولا تسلية الأماني المنسابة من عينيك، عيناك اللتان راقبتهما تذبلان مع الوقت، كأنهما الوقت. ماهي الحقيقة التي يحملها قلبٌ يحتمل كل قلوب أحبابه؟، ماكان نصيبها من الحقيقة مخيلة تلك الفتاة العذراء البريئة؟ تخترق الممنوع بضحكة ليست بذيئة ولا خجولة، بل جهولة وتنسى.
لم يكن الألم رفيقًا بك، كيف يتعاظم الإنسان يا أمي أمام الهزائم؛ كيف يكون شجاعًا ليعرف حقًا ماوراء التعريف المتداول للشجاعة. كيف يهرب من الموت مرارًا ليصل إليه، ويختاره عندما يريده؟
وما أسباب الوفاة ؟ إنها ذاتها أسباب الحياة؛ تغير سريع وجحودٌ فظّ لكل الثوابت والمبادئ. هزّة في الوجدان، ورفّة في الأجفان، أعصابٌ تذبل سريعًا بإزاء اللحظة التي تتفلّت كدوامة القيامة.
إنّ الموت فظاظةٌ تجرح الغافلين عنه.*
بريئة كنتِ كفتاةٍ تمتثل لقصيدة.*
هذا السقف كان بعيدًا كيف اقترب هكذا؟
هؤلاء الأولاد كانوا صغارًا من ذرّ الرماد على ذوائبهم؟
كيف اجتمعتم كلكم هنا؟
كيف اتفقتم؟
لا يوجد مايكفي من المؤونة في الثلاجة.
كيف سأمشي إليكم بلا أقدام
كيف تجرأتم على الوقوف بينما أنا مضطجعة كدمية؟
خذوا قلبي الذي جرّب كل مأساة.
ولتنهمر السماء – تلك دموعكم – مازالت ترائي الملأ
ولتشربوا قلبي الذي تفرّق بينكم
إنّي لا أعرف كيف كبرتم هكذا
من قهره ذلك الملاك
الذي تنازل عن النزال غير مرة
خرج مرفوع الرأس ماشيًا باستقامة.*
إنّ الكلمة التي تغادر فمك ماوجدت قلبًا ليكتم عنها
فإن هبطت على قلبٍ يكتم عنها ازدهرت
وإن لم تجد ستتنقل بين القلوب فتلوكها الألسن حتى تمجّ وتُبصق
وكذلك الكلمة المكتوبة، هاربة من حرقة ماعادت تجد قلبًا يسعها
ثم غادر القلب.
ثم غادر كل شيء مكان القلب
دون أن أعرف في البدء إلى أين
مشاعري كلّها، كلّ ما أكون
تجمّع، تدافع، وصرخ
إزاء العينين المقبورتين اللتين ماعاد لهما من حراك
كل مشاعري التائهة
لا أعلم ما إذا كانت بقيت هكذا سنوات
لكنني أعرف ماكانت تلك الأسابيع
التي عادت فيها محطّمة عن آخرها، وماتعرف أحد.*
إنها تسمعني، أنا متأكدٌ من هذا
كما كنتم متأكدين من أنها لا تقرأ ولا تكتب
سوى العيون والشفاه
إنها تقرؤكم السلام من أرض الأحلام.
أحسّ بوردة بيضاء كبيرة
وهي تمرّ قرب يدي
ظلام يتلوه ظلام
وكنت أحسب أني كنت أرى سلسلة من النور
على أهبّة الانتشار مثل نهار
وأحسبني سائرة صوب الصباح
الذي كان هاجعًا بيني يدي منذ سنين
وكنت أوقظ أمي عندما كان نعاسي الثقيل
يسقط من على وجهي المظلم
وكنت أصرخ بأمي: اقتربي هاتي الضوء.*
كنا نعبر الطريق أكثر من مرة
وفي كل مرّة تتوطد الثقة
بأنّ الدماء دماء
وبأنّ الكلمات التي تغادر
عبر الليل تصل إلى أماكن بعيدة
أبعد من الخيبة التي تدهم الخيال
عندما يقصف الواقع إجاباته
إلّا أنّ استنتاجًا قديمًا
هو دائمًا ينقذني:
أنّ الخيال أقرب إلى الموت من الحياة
الخيال من عالم الأحلام
والأحلام برزخ بين الموت والحياة
والموت برزخ بين الخلود والفناء
أطول وأثقل قليلًا من النوم
الحدود مصطنعة، والحرية أبدية
والقلب المبصر
من شدة إبصاره يتعامى
وهذا الليل ونحن نعبره
كانت تقول لي فيه أمي:
سبحان خالق كل هؤلاء البشر
بأحزانهم وأفراحهم
بأشغالهم وهمومهم
برفقتهم وانقيادهم
بقلوبهم التي تسع أحبابهم وأعداءهم
سبحان من لا يضيق بعددهم
ولا يتوه بكثرتهم
ولا يعجزه إحصاء أعمالهم
ولا تنقص خزائنه من ثروتهم وأرزاقهم
وكان يدور في خلدي أنّ الطرق
لاتطول مع الأحباب
والليالي لاتظلم بنا
وهم بنا
وإنني لا أنظر إلى الوراء
ولا أتطلع إلى الأمام
لأنهم هنـا
حتى وصلنا ، أو كدنـا نصل
ولكي يصالحـك احتضاران
وهذا الاحتضار الثالث
الذي كان يتهددك منذ آلاف الأعوام
من أجل موتك هذا
نهضت حيـوات
وضفّرت أيادٍ أكاليـل الزهر
وتكونت ثم تلاشـت
نظراتٌ أعارتها الورود حمرتها
وزادها الرجال عنفـوانًا
ومرتين أٌلّف فصل الموت هذا
قبل أن يداهمكِ أنتِ
ويغادر المسرحَ المطفأَ اﻷنوار.*
عصافيري
لا أكتب، كما تعملون أيضًا
لكنني أعرف وجوهكم وعبوسها
وأعدّ خطوط جباهكم
وأفرّق خصلكم السعيدة
عن الشقيّة
وأصلي عليكم
وأقرؤكم الصلاة
وإذا ما آذاكـم هجري
فهو هجـركم
وإذا ما آذاكم جهلي
فلم يعجز جهلي عن إنجابكم
.وما تعلمون
طيوري
لا أقرأ ، قلبي الذي قرأ
إذا ماوحـى
أعرب عجمتكم
وجمع شتاتكم
وآنس وحشتكم
بابتسامتي وحدها
تشعرون بالـدار
وحُمى الأهـل
تذوقونها من خبزي
إذا ما سرى في قوانصكم
ولا تشكرونني
وتنضج في أحداقكم
فأبكيكم.
كتاب الصور – ريلكه *