ياسارقًا باللمس إنّ اللوم فرجةٌ في جدار الزمن لم يعد لها وجودٌ إلاّ في خيالك، فاردمها، واحمد الله على حرية الخيال، إنّ هذا الوقت لي ولك، وإنّي أراك منزلي وساكينه:
الأحلام بيوت الأحرار الهاربين من وحشة الدار إلى فسحة الجار، ذكرتك مرة فانتابني تطريب، هل كان بيتًا سمعته أم كان بيتًا سكنته، أم كان وهمًا رسمته، سوف يقول لي صاحبٌ أدمن النظرَ في خفايا الظواهر: إنّ النار لا تشبه النار في شيء سوى في قدرة التفكيك، وأنّ الاحتراق عرَض التحلل، وكذلك الحزن المقيم لا يشبه الحزن في شيء سوى أنّه نار (تضطرم من شدة الألم)، سوى أنها كبدُ الحقيقة تسمّمت من شدة إدراك التفاصيل. ستقولين لي يانجمة المسرّات الصغيرة: إنّ الحقيقة متعذرة، مادامت التفاصيل نائمة في لطف الإله يحمينا من هولها وطولها ومكرها؛ لكنّ كبدي تجيبك بما أجبتِ به نفسك: مابال روحي تهتزّ كهندباءة في يوم جميل لم يعكّر نسيمَهُ العليل سوى ريحٌ عاصف، اعترضَت مسرّاتنا وعرّتنا من ألبستنا، قطعة قطعة كأزّ الضرس من الألم، لا دفعة واحدة كما نشعر بالحزن الشفيف.
إنّ الحزن لا يشبه الألم في شيء سوى أنّه صورته المجملّة، المكمّلة، المتهدّلة، المنسدلة، التي تشرب حرارة التفاصيل كقطعة هشة من الخبز مرمية في إناء الثريد تشربه وهي منه حتى يجفّ كلّه في جوفها، فنظنّ أنّها في جوفه، فنظنّ أنها إياه.
كبدٌ ونار هما دليل النفس إلى أصول الأشياء، واللغة حرفان مزيدان بثالث، رسمٌ لو رأيته من عالٍ لأعجزك، وإن رآك ما استصغرك، فهو ربّ السرّ أودع في الأشياء هُداها دون أن تعيها أو تراها.
كم استخدمنا المعاني دون أن نعرف كيف وصلت إلينا، بمجرد الشعور وملكة الحسّ أتُرى ماكان يفعل آدم في غربةِ الأوّلِ من كلِّ مسلَك، لم يكن يملك خيار استعطاف الماضي واستنزاف الذاكرة، بل كان يرفل بالكبد والحواس وعوالم الخيال، ماكان يملك وقتًا للحزن، بل للنسيان، وكان شديد الأُنس بالتجربة، كان إنسان، حتى أنّه أوغل بكفر الذاكرة ونسي العهد.
وأنت الآن بالخسارة بعد الكسب لم تعد تطلب الحسّ من شدّة غثاء الذاكرة.
إنّهما النار والكبد: طريقنا الممتدّ إلى الأبد، عن كلّ حزنٍ مضى إنّي أرى كل آلامك وأحصيها وأعدّها عدًّا، هكذا تورق العشقة من جذر بعيد استعصى على حارث النهار أن يقتلعه، فنقل التربة، وارتمت على التربة، واختلطت حتى لتوشك ألّا تعرف الفرق بين التربة والتربة عن طريق العشقة؛ إلّا بغصنٍ وغصين، ومن ورقة ربّما أو ورقتين، ومن عين لا تشبه العين إلا بالنظرة.
من يرانا والقمر ثالثنا، من يرانا وأصل خلقتنا يحملنا، لا دارٌ ولا نسب، ومن يحلف أنّه رآنا معًا ما كذب، ومن يحلف بأنّا لم نكن مع بعضنا من قبل ماكذب، فلا تستعجب، أشعلنا على أحزاننا النيران فافترقنا ثم اجتمعنا كتربة على تربة ، كأصل الخلقة، وكما ينبت العشب بين مفاصل صخرة درويش، وكما جبال مريد الذي تمعّن في جمالها فأدرك أنها “الوقت متخذٌ جسدًا”، وكما نار حسين الأبدية، نشتعل بمقياس ونخبو بمقياس كي نلتحم على مزاج وسكرة الحياة تنسينا عذاباتها، وكالسرّ الذي لن يفيدك شيئًا أن تعرفه؛ لأنّك تعرفه، لكنّك نسيته، وستنساه، حسرتي على الإنسان الساهي من فرط ملل، والناسي من فرط اندهاش، والعازم على ألّا ينسى العهد فيُفتن من شدة الجمال فينسى فيسجد لخالق الجمال.
ربّنا إن هي إلا فتنتك، كما ظنّ داوود فسجد، إن نحن إلا عبادك، لاتهلكنا بما يفعلون، مايفعل الله بعذابنا، واجعلنا من الشاكرين، وأدخلنا إياها بسلامٍ آمنين، مؤمنين، ذاكرين، مطمئنين.