انتفخت أوداجه، احمرّت وجنتاه، اتسع بؤبؤ عينه اليسرى بينما ظلّت حدقته اليمنى متصلبة مقاومة متأملة ترى كل الخراب الممكن والفوضى الوشيكة. ومضى بعقله المتعب بحساب عدد مرات نجاته: ثلاثٌ وثلاثون مرة كأحجار مسبحة عليها وقار عناية الإله؛ لكنّ هذه فتنة لا تشبه كل الفتون، هذه دعوة صريحة للغرق.
أجال ببصره في المكان بينما كانت بصيرته خائرة، جدران خضراء معتّقة بالأزرق، المقاعد رمادية لا تعطي أي إيحاء بالانتساب لوجهة، أزهارٌ على الطاولة التي تتوسط المكان، وإناء فخّارٍ منفوخ بماء وبضع قطرات من دمه هرعت للإناء في آخر مرة حاول فيها فتح نهايته الحادة ليرى مابداخله، ولم يكن لديه الوقت الكافي لملئه؛ رغم وفرة الماء.
هذا الطاووس لا يعرف التوقف عن التباهي بجمال خلقته، لا يقاوم رغبة إلا ليوقع نفسه بأكبر منها، لم يكن ليرضى بالمتاح والآني ولا حتى بالمتعارف عليه، لطالما كان يحدوه أملٌ إلى البعيد النائي والمتواري: كمعرفة أصل الفتنة، كفهم كيف يتكون الحب، أو عن مدى شبههما بالرغبة، هذا المسمى المتهتك منهما والداعي إلى إمكانية الشفاء.
يُشفى المرء من الرغبة حالما ينالها، ويتعرض للفتنة وتتعداه فيتعافى، لكنه إن توقف عن الحب فقد أضاع تفرّده، وعندما يدنو موته يتذكر طعم النشوة التي ما إن وصل إليها حتى علم أنها ليست مراده، ثم يتذكر شكل الطمأنينة التي تجاوزها للمعرفة ممتطيًا خوفه والكذب على الذات المتمثل بالمغامرة؛ ثم يتذكر بعدها معنى الحياة: القدرة على المحبة والاتساع المتمثل بالخروج من عمق القاع المليء بالماء إلى أن يصبح المحيط.
عدودي وعدوك قلة الصبر والحرص على نيل الوطر مظنة الشفاء أو الامتلاء، بينما كانت لتكفي نظرة واله، وترقب موعد لن يكون، كانت تكفي ضمة صدر مرتجف، كان يكفي منامة نحلم بها أننا بجانب بعضنا فنستيقظ وإذ بنا بجانب بعضنا، لا تقع الملامة على الهوى بل بالتسليم للشكوك وآثام الظنون.
أعيذك أسماءً ثلاثة: أعوذ بالرؤوف من أن ينالك غمّ اليتم، وأعوذ بالودود من أن يصيبك خوف الغربة، وأعوذ بالقيّوم من أن يكلك لشكوكك وحيرتك ورغبتك.