لا أتذكر أحدًا بعينه، أتذكرهم كلهم دفعة واحدة.
لم أهتم يومًا بالجرح الذي قد يخلفه نسياني لتفصيلٍ ما، بقدر ما اهتممت بالجرح الذي يخلفه نسيانهم لأنفسهم في منعطف عسير، كم من مرء خسر نفسه وخذلته مرونته، ألا إنّ المروءة هي مرونة التشكّل في تنّور الاحتمالات، ولم أعد أعرف لي وجهًا، كم مرّ عام حتى أصبحت ملامحي تشبه أيامي ولا تشبهني.
النظرة وحدها مالا يتبدّل، تظلّ صارخًة طلبًا للنجدة على الدوام، ودمعتها تاج الروح المثقلة بالخوف من المجهول: الغيب والظنون. كنت حينًا من الزمن دقيق في استخدام مصطلحاتي كي لا أضيع نفسي في منعطف تقلّب النوايا، لكنني ضيعتهم كلهم وبكيتهم كلهم- أولئك الذين يرفضون أن يروا مايوحدنا-.
وحده من يشعر بمعاناتك يراك، معاناتك وحدها هويتك الأصيلة، معاناتك من دون أي تفصيل يبررها أو يجمّلها، معاناتك التي تبدأ بمكابرة وتنتهي بدمعة الاعتراف بالخسارة، الاعتراف بالضعف، والاعتراف بالضياع.
في الأمس القريب كان الصبر وحده زادي، واليوم كلّ الأيام التي صبرتها تتقافز لاهية أمامي كأولادي الذين ربيتهم ورعيتهم وسهرت على شكواهم ونجواهم، وشربت خوفهم وشربوا مرارة إحساسي الحارق بقلّة الحيلة. لم أكتب منذ مدة لنفسي المتوارية، واليوم وحدها أذكاري ذكرياتي، ولا أحد يرثي نسخة الخوف المتصلبة في جوفي عن هذا الذي لا أعرفه وأصبح أنا.
كم من رأى وأشاح بنظره مخافة الالتصاق بحزن جارف، ياليلي الطويل لم أعد أراك طويلا بما يكفي لاحتمال تبريحي، وإن انشغل الناس بعيشهم وعشهم فإنك لا تنفك تعشعش في باب الحقيقة، تفكك معي كل إغماض وكل زلة وكل حيرة، ونستيقظ معًا في الصباح تذهب إلى الجانب الآخر من العالم وتتركني لهمّي.
لكنها لم تيأس وظلّت تراني، تزايلني وتحايلني، أشعر بها وتشعر بي، رغبة تبدد كل المخاوف، رغبة تستجمع كل الأسئلة في ناحيتها، أحسست معها بأنّ الليل ليس أصل بل بدل، وأنّ النهار ليس قدر بل هبة، وبأنني أضعت عمري دون أن أحفظ معها أسماء الزهور وأشكال النجوم ومواسم هجرة الطيور، كنت أحبس دمعتي مخافة تنبيهها لحزني وعلمت أنها تنهمر في خدّي البعيد وترققه.
كنت أسأل نفسي دائمًا هذا السؤال: كيف تعرف أنّ يدك هي يدك لولا سيالات العصب الحيّ ؟ ومن هنا عرفت أنها تنتمي لي وأنتمي لها من ذات المكان الحيّ في داخلي، نبضٌ يؤجج كل أشكال الحياة، و بمعيتها علمت كيف ينحسر البصر وتتقوى البصيرة، وكيف يخسأ العقل وتتعزز الرغبة، وكيف تندلق الحياة من مفرق صخرة، نعم لقد وجدنا غريبين معًا.
عامٌ بأكمله كان منعطفًا أنساني كل فلسفاتي وعرّفني على نفسي جيدًا، ومعرفة كهذه تغضب كلّ من لا يريد للحياة أن تتغير، رأيت أناسًا يلفظون نعمة الله ويشترون تدبيرهم.
قلبي لا ينام لكنه مطمئن يا كل أطفالي، وأنت النظر كل النظر.