الرجل الحرّ أخلاقيًّا

ألقى اللوم على ظلّه الذي يتبعه حتى غابت الشمس ، فأحسّ بالوحدة.
كان يحمل هذا الحنق الشديد على كل شيء يتغيّر، خصوصًا تلك الأشياء التي تعاود صورتها من جديد وكأنّ شيئًا لم يكن. تلك الأشياء التي لا تسمح لنا بلومها على تغيّر صورتها إلى الأبد حتى تعاود الحضور. إنه يتصالح مع الموت أكثر من كل مظاهر الحياة؛ لأنّ الموت يأتي مرّة ولا يعود، يأخذ كل شيء ويمضي إلى الأبد. ما أشدّ رحمة الموت.

يفتح باب منزله يحمّله بأثقال الوحدة ويرتاح، يعلن بدء الليلة بنبيذٍ رخيص، يأكل بنيّة النجاة لا الشبع، يلملم خياله حتى لا يجنّ، يشاهد فيلمًا ليسنن مالان من رغبته، يرهق نفسه كي ينام دون عناء الأسئلة بالأسئلة. يسخّن طعامًا بائتًا، الملعقة تبكي اتساخ بقايا الأمس، من يبكي صدأ داخله إذًا؟، يتوقف عن السرحان حتى لا تتواطأ الشرفة وتبكي فهي براحه، المنظر كئيب من الشرفة لكنه اعتاده.

الخدعة التي كانت تلهيه بطول الأمل أصبحت مستهلكة فالعمر يجري، وبكل مافيه من تغيرات تلهي إلّا أنّ الهوّة تتسع بين العالم الذي يراه في داخله والواقع الماثل أمامه، عوضًا عن ذلك يصفف حججه المفحمة بأناقة، وعنف، تمامًا كما يشعر بأنّ حتى رغبة الإبهار والتصفيق المنتظر لم تعد مغرية كما كانت في السابق. يلتمس عذرًا لهذه العزلة حيث أنه بها لا يخيب ظنّ أحدّ سوى نفسه.

يتساءل المصاب:
لو فتحت لك بابي من يغلقه عند مغادرتك؟
بل كيف لي أن أفتح حوارًا مع أحدهم وفوق رأسي طائرٌ يتكلم على الدوام؟
لو أسهبت في شرح جرح أحزاني هل تقوى ذراعاك الواهنتان على تقطيبه؟
لو نمت على صدرك، هل ترضى عزلتي الغيورة؟
لو ابتسمت ملء قلبي، هل سأموت؟
لو حاولت الفرار من الرتابة، هل يقوى الخيال على مجاراة جموحي؟
ولو أحببتك، هل سأتحمل ألم السقوط الحرّ ؟

هذا اللسان الأداة الأشد فتكًا على الدوام.

إنّ من يريد أن يمشي بكلام الاثنين للثلاثة لا يريد للخير أن يعم، وإن كان خسيسًا في طلبه فهو بالتأكيد أحمق في تصرفه وأحمق منه من صدّقه؛ ذلك أن كلام الاثنين لا يشبه كلام الثلاثة، وكلام العشرة لا يشبه كلام الجماعة، وكلام الجماعة لا يشبه كلام الحشد، كلما زدت في العدد زدت في الظنون، كلّما لم يعد لكلامك جدوى سوى أن يهلل له ويُصفق علنًا، وتصيبك نظرات الشزر والضغينة والأطماع الدفينة سرًا.

إن الكلام بطبيعته فضفاض وعائم ولا يشبه حتى قائله، هو محاولات دائمة ومستمرة لاختيار بين اثنين ماكان له من داعٍ لو صمت الإنسان، وإن الصمت أفسح لو كان يرى الآدمي نتائج أقواله. وأسوأ من الكلام هو إرادة السمع، حيث أن المستمع لا يسمع غالبًا إلا مايعجبه ومايريد هو أن يفهمه، ولو كان بمقدور الناس أن يعرفوا الفرق فعلًا بين هذا وذاك ماتكلّم أحدٌ منهم أبدًا إلا رمزًا.

أحدنا لا يعلم كيف تنتهي حياته التي يعرفها وتبدأ الحياة التي لا يعرف عنها إلا ماتقوله له الأساطير والأديان والجدّات. تلك الحياة التي تكون فيها إرادة القول وإرادة الفعل واعيتان، وكيفما كان إيمانك بأن وراء الإرادة سبب فيزيقي أو ميتافيزيقي، فإن وجودك دليل على وجودها ووجودها دليل على وجودك، وكلنا نعرف أنّ هذين الوجودين مرهونين بزمن سينتهي. وأيًّا ماكانت الطريقة التي تبرر بها أفعالك أمام ذاتك فإن الغصة التي أحسست بها وقت أن هممت بفعل لا يشبهك هي برهانك الذي تتغافل عنه، وأنّ الإنسان لا يتغير حين يهم بفعل الفعل أو حتى حين يزينه له خياله، وإنما يتغير في ذات اللحظة التي يفعلها فيه، وبالضبط في هذه الطريقة تُمتحن النوايا من وراء الأفعال، حين تجرح الجارحة.

في أول الأمر وجودٌ لازم ثم كلمة ثم وجود ممكن ثم فكرة ثم خلق ثم تشكّل ثم قول ثم فعل ثم قول ثم تشكّل ثم خلق ثم فكرة ثم وجود ممكن. في هذا الدور الفعل هو الحلقة الأضعف، هو حجر الزاوية، وهو أيضًا مناط الحكم، وأهم صفاته أنه لا يتكرر وهو ارتكاز هذا الدور، عندما تفعله لا تستطيع استرداده ولا حتى إزالته بعد وقوعه، ولا تستطيع استرجاع ذاتك.

إدراك حجم الفرصة لا يكون إلا بإدراك ثقل المسؤولية، والقاصر عن هذا سوف تسحقه تفاهة الشرّ إدلاءً وغرورًا، وغاية هذا الإدراك هو تقديس الحرية الأخلاقية لكل إنسان، حرّية أن يختار مكانه بين الجموع ثانيًا، وأمام رغبات ذاته أولًا. هذه السنة سوف تُطوى بهذا:

“إنّ الرجل حرّ أخلاقيًا إذا كان يحكم على العالم وعلى الآخرين بصراحة لا تقبل المساومة”.-
جورج سانتيانا

أخبرني عن رأيك ..

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s