إن حزنًا يصيبك مرة واحدة في حياتك ليس كافيًا على استشعار هدفها، لكن حزنين كافيين للغاية لمعرفة أننا وُجدنا هنا لكي نتحضر فقط لموتنا، ونتدرب على استقباله بالشكل اللائق رغم كل فزعنا الوجودي من ذكره.
هذا هو شكل المفارقة: روحٌ حرّة مسجونة داخل جسد محكوم بقوانين الطبيعة، بهذا الاختزال الذي يختصر الحياة، كل هذا التناقض الذي تتحسسه وتتذوقه وتجسّه، ماهو إلا نكهة المصارعة التي تجري باستمرار داخلك، ولولا أن تكون منهك منها لما نمت يوميًا تاركًا لروحك فسحة الهرب ولو قليلًا بعيدًا عنك لتهدأ وتستكن وهي عائدة إليك في الصباح الباكر، ثم تعتقد أيها المخبول أن تجديد خلايا جسدك المادية هو المسؤول عن كل هذا.
إنّ ذاتك المفكرة المفارقة والرائية عن مسافة ليست هي ذاتك الجارحة وليست تلك المادية التي تستهلك مستحساتها الخمسة بحثًا عن أجوبة للوجود عن طريق العلم التجريبي. إنك فقط تستهلك جهدك وتستنفذ عقلك وتتخبط عشوائيًا باحثًا عن أجوبة للأسئلة الكبرى في الناحية الخاطئة.
ليس لذاتك شكل وهيئة ولذلك لا تراها ولا تلمسها ولا تكاد تؤمن بوجودها، وهي في أغلب أوقات حياتك نائمة بعمق، ودور وجودك أن توقظها برفق وتنتظرها عمرًا وتدربها على الاستيقاظ وتقبل هيأتك الحالية مشروطة برهن الموت الذي سيحررها، ثم بعد مهمة إيقاظها عليك أن تعرفها على جسدك الفاني وتجعلهما يحترمان بعضهما ويتوقفان عن النزاع على كل شيء ماداما على هذه الأرض، وتطمئن كليهما إذا تنازعا وسئما من بعضهما أن البقاء مؤقت لأجل.
إنّ ما يعطي هذه الدلالة الصارخة على أن جسدك ليس هويتك ولا ذاتك، هو أن جسدك ذاته يتغير في كل لحظة فعليًا، خلاياك لحظيًا تتجدد، ملامحك كل مدة زمنية تختلف جذريًا حتى يصعب عليك نفسك تمييز جسدك في مرحلة ما أحيانًا؛ ورغم هذا لا تزال تتذكر أنك أنت وتتذكر أحزانك وأفراحك، جروحك ومخاوفك، فزعك وانشراحك، وهذه المشاعر ليس لها هيئة ولا شكل بل لها أثر تحسه فتعتقد أنه هو المسبب، وهذا من صميم التصميم المُراد لك أن تقاومه وتفككه وتتدرب على وجوده وتعي حبسه لك، ثم إنه ليس من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض أن تُحاسب على الشكل والهيئة فقط، بل إننا نحاسب على هبات أُعطينا إياها بالتساوي، لكل واحدٍ منّا روحًا يدربها وتدربه فترة حياته.
كلامي هذا ذاته سوف يستقبله الأحياء بتفاوت، فالمتذكر للموت يعرف أن فيه وجهًا من الحقيقة وإن لم يُصغ بالطريقة اللائقة نظرًا لقصور اللغة، والغافل عنه سيعتقد أنها على أفضل الأحوال هرطقة منمقة بكلمات تحمل معاني مفردة ولكن وحدةً في الشكل مفقودة، والمؤمن سوف يرى فيه روحًا ما، والمشكك المادي الجامد سوف يتعوذ من شرّ التخبط والهذيان، وهذا بذاته عجيب جدًا، كيف أنك لا تستطيع أن تنقل هذا الوعي مهما حاولت وأفنيت عمرك.
معرفةً كهذه تستوجب غفرانًا كهذا، وتفزع من حقدٍ كذاك، وتخاف على الغافلين المارّين وأعينهم مغمضة من التعثر فتبعد كل الأشياء من طريقهم كي لا يتعثروا بعد أن فقدت كل الأمل في أن يفتحوها ولو لمرة.
معرفةً كهذه تعرف أن التوقع – أو الظنّ إن كان في الأمر تقليب نيّة – ماهو إلا جنحة وحرص، وأنّ الغيرة حظ نفس يجب أن يُهذب، وأنّ الأطماع كلها زائلة وزائل ما طمعت به مالم يكن طمع بنيل المعرفة والخبر الذي يُسكن روحك الفزعة.
معرفةً كهذه تنسيك اللذة، وتنسيك المصطلحات والحدود، تجعلك حريص على ألا تسمي الأشياء كما يسميها الآخرين خصوصًا تلك المصطلحات المنتقاة بعناية والتي تُردد على رأسك صباح مساء، فتلك أشرسها في إيهامك، عليك أن تنال تجربتك بنفسك، على مصلطحاتك أن تكون فريدة ومميزة وتخصّك وحدك، وعليها ألا تُختزل على هيئة لغة وكلمات، قد تأتي على صيغة موسيقية، شكلية، مائية، أي شكل من أشكال التعبير والمجاز يُناسبك، المهم أن تكون أنت بكامل قاموسك الخاص.
وهذه هي الحياة كما أعرفها، كما خبرتها، وكما سيتسنن هذا المصطلح ويدقّ ويتحدد مع مضي التجارب لا الوقت.
بديـع.