تمامًا بعد شهر، اتضح كل شيء

كل أحلامي بأبي بعد وفاته كانت تُظهر بصراحة أنّ أبي حيّ موجود معنا رغم حقيقة موته، لا أعرف مادلالة هذه الأحلام، هل يعني هذا أنه حاضر بصفاته التي أورثنا إياها ، أم بروحه التي تملأ جنبات المنزل، أم هو فعلًا قد استحوذ على كل حضور في المكان بغيابه الذي كان بغتة، أكاد أجنّ وأكتئب مرات ومرات عندما أتذكر ذلك اليوم الغريب.. طريقة ذهابه هكذا بكل خفّة وبساطة عن العالم كانت مفزعة بقدر ماكانت مبهرة .. كما كان يجب لها أن تكون يومًا، كما كان يحب دومًا أن يجلس بلا إزعاج ، بدون أصوات ، أو صخب وضوضاء ، غادر وحيدًا مستلقيًا على سريره بطريقته وثنية قدمه وبأدويته المتناثرة في المكان حوله كالمقاتل العتيق المضرّج بجراحاته التي قتلته بعد أن سئم أغلبها منه ومن صموده.

مازلتُ يا أبي طفلًا رغم تظاهري المغرور والمعتد بذاته أمامك بأني أجيد كلّ شيء – خصوصًا كل تلك الأشياء الحديثة التي لا تعرفها – وبتظاهري بالسيطرة بكل مايجري حولي لئلا يُستثار قلقك وخوفك المعتادين عليّ، وفاتني من تظاهري هذا أن آخذ منك المهم والعميق والباقي في النفس بعد غياب المظاهر والقشور. أتعطش لمعلومة أخرى منك خالية من كل أطماع الآخرين ومقاصدهم ونواياهم ، أحتاج لكلمات حنونة رغم قسوة ظاهرها، صافية جدًا من أي شائبة ابتذال أو تباهٍ، مليئة بحكمة السنين من أبٍ ترك العالم خلفه ومظاهره ومناصبه وتمسك بالأصول، مليئة بالخوف على أبنائه كأعظم مايكون الأب، والقلق عليهم كأصدق مايكون الأب، والصبر على الصعوبات والمصائب وقلة الحيلة والحال كأحلم مايكون الأب، هذا ما أعرفه الآن بعد أن كبرت بعد رحيلك سنواتٍ وسنواتٍ.

أنا ضائق بكل ماتحاول الحياة أن تدفعني إليه ، أقاوم بشراسة الأطفال وعنادي الموروث منك، أريد دفعها عني بكل ما أستطيع من قوة، ماقتًا كل المظاهر مثلك، كارهًا تهافت الناس على الحياة مثلك، قانعًا بكل مالدي بل قلقٌ به مثلك، صادقًا بأفعالي دون حاجة للكلام عنها مثلك، وحتمًا سيعرف الآخرون ماقيمة هذا بعد رحيلي عنهم بخفة مثلك.
عرفت أنا جدًا دلالة رحيلك الهادئ ذاك في اللحظة نفسها التي رأيتك فيها ممددًا، عرفت أنّ أقل الأشياء إحداثًا للضوضاء عندما ترحل ، أعظمها أثرًا في القلب، والخفة التي غادرتنا فيها توازي الثقل الذي أحسه بداخلي الآن، وتظاهرنا جميعًا بسهولة الحياة بعدك هو مكابرة على شعور الخسارة القابع كموت بدواخلنا لك.

أحبك بأنفة وعزّة الذي ترك الحياة ولم يرتجِ أحدًا، ولم يطمع بمالِ أحدًا، ولم يسرق أحدًا ، وكان أعظم شكواه لأولاده وكان كل نحيبه إليهم وكان كل خوفه عليهم كأنه يقاسم روحه شكواها ومصابها ونحن كلنا بضعة منك ، أفتقدك أبي ما أعظم فقدي لك وما أعجلني وأجهلني إذ تصوّرت قدرتي على تحمله.

فكرة واحدة على ”تمامًا بعد شهر، اتضح كل شيء

  1. يقول ..:

    وكأن الأماكن كلها فرغت بعد رحيله .. وكأنك تمشي وتردد ( مكانك الخالي محدن ملاه .. يايبه )
    جبر الله قلبك وقوّاك في مصيبتك .. صدقني تستطيع الصمود والتجاوز والتعايش ..

أخبرني عن رأيك ..

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s