( ذلك الكتاب لا ريب )

( ذلك الكتاب لا ريب )

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين ، حبيبي محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم إلى أبد الآبدين ، هم ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدين ، ولا تحرمنا من الفضل ولا الاتباع بسوء ماعملنا وبما فرّطنا إنك أنت الرحمن الرحيم .

أما بعد ..

هذا رمضان شهر الفضل والتيسير والأفكار الوقّادة بالخير ، والنفوس المتحفزّة للصلاح والإصلاح
هذا رمضان شهر القرآن ، ولطالما أردت أن تكون لي نسختي الخاصة من تفسير القرآن التي أرجع إليها أنا بنفسي وأقوم على التفكير والتفكر والاستئناس بها ومشاركة الآخرين ومحاورتهم عنها .
وعلمتُ أنّ الكثير من الناس يحب هذا ويتمناه لكنه يقصر عنه لأسباب : أمّا الذين يقصرون عن ذلك من باب كسلٍ منهم فنقطتي القادمة لا تعنيهم ، وأمّا الذين يقصرون عن ذلك من باب التخفف مما هم ليسوا أهلًا له أو أنهم يرون في أنفسهم قلة علم ودراية بأحكامه ، وأنهم ليسوا طلاب علم ولا طالبي حقيقة متحفزين لها طوال الوقت ، ويخافون المساءلة وثبات الحجة عليهم من باب أنهم تعلموه وتأملوه فلم يؤمنوا به .

الصنف الثاني هم من أوجه لهم النقاط التالية التي لطالما أرّقتني: هل أنا كفؤ لأقوم بتفسير القرآن حسب إمكانيات عقلي وقصور علمي ؟ وجواب ذلك – من وجهة نظري – بالنقاط الآتية :
– القرآن من حيث العموم كتاب رحمة وهدى وآخر الرسالات الإلهية للناس أجمعين بل للثقلين ، وآخر بركات الوحي الإلهي العظيم للعالم السفلي التائه بين شهواته وشبهاته ، فهذا دافع للجميع دون استثناء أن يبحثوا فيه وينهلوا من قبسه ، كلّ بحسب قدرته .

– القرآن ميسر ومسّهل كما قال الله [ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر ؟ ] (القمر:32) ، وهذا التسهيل عام للعوام والخواص ، للعلماء والجهّال ، وقد خبرت الناس أن العالم والأميّ يحفظان القرآن ، كما يحفظه العربي والأعجمي ، ومن جملة هذا التيسير نزوله منجّمًا كي يسهل تجزيئه على العقل بكل مافيه من المواعظ والدروس والأحكام ، قال ربُنا [ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبّت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ](الفرقان:32) ، ولو كان مختصًا بجماعة دون أخرى لما لحقه هذا التيسير للناس أجمعين .

– يخلط الناس بين القرآن وتفسيره ، فالقرآن كتاب مقدس محفوظ ، وتفسيره ليس مقدسًا ولا محفوظًا يؤخذ منه ويُرد بحسب موافقته للأصول ، وهكذا جرى تحريف الكتب المقدسة من قبل بتقديس ماليس مقدّس وتعظيم ماليس معظم وبتنجيم الكتاب وتقسيمه وإخفاء بعضه وإظهار آخر لهوى في النفوس [ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ] (الأنعام:91) .. فالقاعدة الأهم من هذا الباب أن القرآن توقيفي وتفسيره متوسع يحق للجميع تفسيره ويحق لنا بعد ذلك الأخذ والرد من هذا التفسير بحسب ما يوافق الكتاب والسنة والإجماع ، ولاننسى شمول الأجر للمجتهد المصيب وللمجتهد المخطئ ، والنية هي الأهم .

– القرآن يسع كل شيء ولا يسعه شيء ، وهذا الباب يريحني جدًا ، فأنا كآدمي أخطئ وأصيب ولم يحملني الله مالا طاقة لي به ، وأقارب الحقيقة وأبتعد عنها بحسب قدراتي وماجعلني الله ملَكًا بحمده وسابقة علمه ، وما أنا من المتكلفين برفع العلماء فوق منزلتهم وجعلهم أربابًا لي من دون الله يعلمونني كيف أفكر وكيف أحاور وكيف أناظر وأتبصر ، فلي فهمي – وإن قصر – من القرآن ، ويحق لي مشاركته مع الآخرين ومحاورتهم حوله .

– لا أطمح أن يشتهر تفسيري وأن يقارع الحجج ويتصدر المجالس ويتحدث به الناس ، فأنا لست أهلًا لهذا في عمري الحالي ، وأنت إن كنت ترى أنك لا زلت صغيرًا فهذه خدعة تُخدع بها ، العالم يبدأ صغيرًا ويخطئ صغيرًا ثم يتعلم ، يكفيني أن أبدأ ولو أخطأت ، هذا أحرى للخاتمة الأحسن مما لو أني انتظرت النضج ، وكان بعض السلف يكتب كل الأفكار التي تدور في رأسه خشية فقدانها وبعضهم كان ينتبه من نومه فيكتبها خشية أن تفر من رأسه ، ولا ينبغي التثبت والتأصيل وإلا لضاع العلم كله ، خشية النقص ومن منّا لم ينقص علمه ؟

– القرآن معترك اختلاف وجهات النظر ، ليس كتاب تلقين وإنما كتاب تحفيز وإنماء الأفكار بداخلك ، لا يقول لك افعل لكنه يشجعك إن فعلت ، يقول لك فكّر لكنه لا يحبسك في نطاق معين ، يقول لك تأوّل لكن بحسن نية ، وهو يشمل كل المذاهب ولا تشمله ، ويحوي كل الفضائل ويجمل كل العلوم ، ومن معجزات القرآن التي لطالما أدهشتني أنه يعطيك بقدر ماتعطيه ، ويعطيك بقدر ماعندك ، ويعطيك بقدر إيمانك ، ويعطيك بقدر تفكّرك ، فالله حين قال [ .. مافرّطنا في الكتاب من شيء .. ](الأنعام:38) ، وحين قال [ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ] ألحق ذلك بالمستفيد من هذا التفصيل والإجمال [ … فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ] (يوسف:111) وعلمهم هذا ناتج عن تفكرهم وليس محض إيمان وتسليم أجوف ، وقال أيضًا جلّ في علاه [ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ] (آل عمران:7).

– ترك التدبر لأي سبب من الأسباب ولو كان بحسن نية هو خذلان من الله للعبد الضال المنغمس في شهواته وملذاته والملائكة حين سألوا أهل النار في قوله [ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ](الزمر:71) ، وفي قوله [ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ](الملك:9) ، خزنة جهنم على جلافتهم وغلظتهم – أبعدنا الله وإياكم عنهم – يستغربون منهم كيف لكم أن تكفروا وتدخلوا النار وعندكم هذا النذير من الله ؟ هذا الكتاب العظيم ؟ هذه الحجة البالغة ؟ هذا التبيان لكل شيء ؟ ، ولاننسى الذم المذكور في سورة الفرقان [ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ] (الفرقان:30 )

بعد هذا كله وبعد هذا التأصيل ، سأتكلم تحت هذا التبويب ( تأملات قرآنية ) عن كلّ مالفت انتباهي عن القرآن ومافيه من الحكم والفوائد دون استثناء – بإذن الله – .

أخبرني عن رأيك ..

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s