اللهم سقيـا رحمة لا سقيـا هدمٍ ولا تدمير ..
هكذا استهللت رعودك وبروقك ترحيباً بعودتها من بعيد و بعيد جداً ..
في عرف الحياة ومن خلال تعاملاتي السابقة معها :
هي لا تذهب خالية الوفاض أبداً , وإن ذهبت فستعود بما هو أقوى وأثبت مما ذهبت به قبلاً .
صبَرتُ والصبر جُنّـة للموعود , ولكني لم أكن موعوداً , ولم أعرف لماذا صبرت كل تلك المدة ؟
دائماً ما أراني أنافس الحمار صبراً وقد يلقبوني يوماً بـ أبي صابر , لا أعلم , ولكني صبرت كثيراً
وصبٌر بلا وعـد , كصبرٍ على سف الرمد , والمشي عارياً تحت الرعد , ورواية قصة بلا سرد ,
بالضبط هي هكذا كانت أيامي تتقطع , وكانت لحظات سعادتي مبتورة , ولم تكتمل أبداً تلك الصورة .
قد أكون مؤزراً بتوفيق الله وتثبيته لي , أو ربما كنت مستسلماً لسطوة الأيام , و أظن أنّ لي ماضياً مع الاستسلام حينما كنت أرى عينيك , وابتسامة ثغرك المليء بالأشياء التي تلمع وتسطع وتتميع كما كنت أتلوع وأنا أشاهدك , ولا أدري أقلبي ذاب حبّاً بك , أم قد استباح ما حُرِّم عليه قبلاً وأصبح يعصيني , أم أنه فعلاً وفيّ جداً لك , ولكني لم أكن أعلم بوفائك لي ؟ , أنا أعرف إني كنتُ وفيّاً جداً لدرجة إني كنت أخاف لمجرد أن أسمع أنك تبتسمين لأحد غيري , أو تخاطبين غيري , أو حتى ترتاحين وتستأنسين بالقرب من غيري , فاخترت البعد بهدوء بلا أي صوت , بلا ذكريات تتلألأ كلما تذكرتك , بلا جنون , بلا ظنون , لم يبقَ لي منك إلا تلكم العيون , كنت استأنس بها في ظلمة الليل , بخيالاتي التي تسبح بعيداً , أصبحت أراكِ في عيونهم , أصبحت استمتع بمناجاتي لطيفك لدرجة أني استأنست بقربه وكنت أستوحش من لقياك و ارتعد لسماع صوتك , أتذكر ضحكتك التي كانت تملأ خلاياي حركة ونشاطاً , فاتت على الأطباء أن يصرفوا لي منك دواءً لعلاج فقر الدم فيّ , وكنت أعلم أنك طبّي وطبيبي , و سرّ صمتي وتغريبي , و سبب استمرائي وعنادي , ولكني فضلت البعد لأن البعد مرّ بالدرجة الكافية للتجرع يوماً بعد يوم , على أن أتجرع عسلاً فانياً , أو اعتاد على إدمان ابتسامة غالية جداً لا أستطيع التكفل بثمنها الباهظ يوما بعد يوم , وأنا أناني بعض الشيء أريد أن أبقي بعضاً مني ليّ , للأيام السوداء , لليالي الباردة الجافة الصامتة التي تسرق مني بهدوء , تسرق من لمعة عينيّ , ولون شعري , وتزيدني اصفراراً بعد حمرةٍ كانت تعلو وجهي لتثبت لي أنني فعلاً فقير ولا فقر يمرضني سوى فقرُ قربِك , أنا فقير , و أدعو الله غنىً لا يبطرني ولا يجعلني متكبراً بما لدي , وغنىً يعيني على طاعته أكثر من أن يسرقني من نفسي ومن الناس ,
لم أشك يوماً ولن أشك بمدى صدقي وصدقك في الهوى وفي الحب وفي اللوعة و صدق المشاعر , حتى لو كذبتِ بأنك لغيري فأنا أعرف أنك لا تبتسمين من كلّ قلبك إلا لي , ولا تعرفين أن تبوحي بكل صدق إلا لي , وتزدادين حرية بسؤالي وغيرتي عليك , وتستبهي طلعة جبينك بنظرة إعجابٍ مني.
أنا لست غبياً , وإنما حذر ياحبيبتي , أخاف عليك قبل أنْ أخاف عليّ , أخاف عليك لأنك مني , أخاف أن تغرقين وأغرق , أخاف أن لا تجدي حبلاً للنجاة إلا أنا , وأنا الغريق قبلاً , أخاف أن يقلقك حديث الناس عنّـا , ولا أحتمل تنهيدة القلق منك , لأن أعظم قلق يصيب الإنسان أن يقلق بسببٍ يجهله , نعم سأقلق لقلقك ولكني لن أحتمل أن أقلق لأنك تقلقين فقط , أن تعيش كالملك المخلوع في وسط مملكتك البائدة أصعب عليه من أن يموت حفاظاً عليها , رضيتُ أن أموت سابقاً فيها دون أن أتكلم , تقطعت بهدوء , كل يوم أنزف قطرة في إناء يسمى بالوفاء , والوفاء لا يعرف ثغراً يحكي عنه , هو صامت لا يبان إلا إذا طفح الإناء بالدماء وابتدأ يذرفها يمنة ويسرة فيلاحظ الناس حينها كم هو مليء , وينظروا إلى الرجل النازف ويجدوه قد فارق الحياة مبتسماً .
الإنسان يستمتع أن يعبر عما بداخله , ولكنه يتعذب إن لم يجد أحداً يفهمه , لذلك اخترع اللغة واخترع الكتابة واعترف بالفنون والطرق التعبيرية المتفرقة كالرسم و النظم والشعر والغناء والأراجيز ولربما صدقّ الأعاجيز لأنه يحب أن يُفهم كما أراد , لاشيء يثلج صدر الإنسان كإيجاده لعقل يفهمه وقلبٍ يئن لأنته , ولسان صادق يكمل عنه ما ابتدأه , وحب لا ينضب مهما طالت مدة استعماله , كل خوفي أن أكون في موقف يصعب علي إيصال مقدار حبي لك , للناس لمن يهموني , وأنا أكثر خوفاً أن أفقد القدرة التعبيرية عما في داخلي لك , أنا أحبك هذا يقين , ولكن اليقين لا ينقل بالشعور فقط , فالله واحد لا ثاني له هذا يقين ! , ولكني انظري لحجم المشركين والكافرين في هذا العالم ! , وهذا يعني أن اليقين وحده لا يكفي , أريد أن أمتلك أداة تعبيرية قوية لكي أنقل لك شعوري بأني سأرسم لك الأرض على كفك إذا ما أردتِ ذلك , سأتسلق القمم الشاهقة وأنتِ على كتفي , بأني سأنظم معلقات وأرجع الشعر العربي لأمجاده إذا ما أردتِ , ولكن هذا يستعصي عليّ الآن لأنه لا أمان ! ..
لربما نسيت أن أقول لك قبل ذلك أن الأمان أبو الإبداع , أنا لست آمناً الآن , لا أمتلك المقومات الكافية للأمان , للسلام الداخلي , للتحدث بكل أريحية وطلاقة , لأني لم أبلغ أوج قوتي , لأني مازلت شاباً أضج بالمتناقضات فيّ , لأني أترنح بين كل الطرقات فأعود لنقطة البداية , لأني لابد لي أن أكون هكذا لكي أعرف طريقي جيداً وأمرّ له مرّ السحاب , الحياة محطة توقف وانتظار , كلنا ننتظر بلا استثناء , قد تطول مدة الانتظار , وقد تقصر , قد ننتظر سراباً , و قد ننتظر غيوماً هاطلة , أو سحابة صيف خداّعة , ولكن بالرغم من ذلك نظل ننتظر حتى لو كان ذلك الإنتظار مجهولاً .
كل ما أريد أن أقوله يا عزيزتي : انتظري وانتظري مطولاً ..
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب , لعل أجري وأجرك أن نلتقي بأمان في يومٍ من الأيام .
وإن لمْ يكتب لنا ذلك , فسوق يتفتق لك مستقبل مشرق من مجرد انتظاري , أنا أثق باختيار ربي لك .
وأن الخيرة فيما اختاره , فإن لم يختارني بقدر حبي اللامحدود لك , فسوف يرزقك بخيرٍ مني , ويالك من محظوظة به .