في غرفة الانتظار

صادفت يوماً في قاعة الانتظار رجلاً في منتصف الثلاثين , خالط بياض شعره السواد , كان هادئاً كامناً في عزلته التي أظن أني قطعتها بدخولي عليه , ألقيت عليه التحية ملاطفاً أو مطمئناً له بشخصية توحي بالهدوء وقلة الحركة ولن ينزعج من وجودي بالمكان , يبدو لي أنه فهم مني هذا التصرف فأجاب بتحية تشير إلى أنْ “أهلاً بك” , ولا تحاول أن تتصدر وتفتتح حديثاً لا تستطيع إنهاؤه بخاتمة واهية , فالخواتيم الواهية أسوأ عدوى قد تصيب إنساناً ما , هي كاللعنة القديمة التي لن تزول إلا بتعويذة قوية , مفادها نهاية صادمة , أو قناعة مانعة , و على كل حال ستكون توفيق إلهي يطفئ في صدورنا الشرارة . أظن أني فهمت الإشارة من لمعة عينه اليمنى التي تكاد تكسر زجاج نظارته التي توحي بضعف قديم بالبصر , والتي بالتأكيد لا تعكس قوة بصيرته وفراسته النافذه حين حرك قدمه اليسرى إلى الخلف قليلاً , لست مهووساً بالقيافة ولست موسوساً ولكني في خلدي أعرف أن هذه محاولة منه لرد نظرتي التفحصية له , واعترفت بسوء تصرفي حقاً حين حككت فكي الأيمن معتذراً , ولاحظت تناغم عجيب و سلام روحي حلّ على الغرفة , كنت مستمتعاً بالصمت بحضرته , كنا نتكلم بلغة أخرى , آسف كنا نشتكي لبعضنا بصراحة وبصراخة , كنا نحتضر وحين وجدته تشبثت به , حتى وإن كان طيفاً عابراً في غرفة انتظار في مستشفى ما .كان يقرأ مطوية موجودة في أحد رفوف الغرفة لكي يمضي الوقت بسرعة أكبر , من تقليبه للصفحات بذلك الإهمال علمت أنّ تلك المطوية قد بطأت الوقت أكثر , فوضعها جانباً , وبدأ يدندن ويضرب الأرض بقدميه بنغمة توحي لي بأغنية أعرفها جيداً , أجبته بإكمال تلك النغمة على الكرسي بجانبي , ارتعش قليلاً لإتقاني لتلك النغمة بالضبط كما سمعها لأول مره , كنّا نعزف معاً بشكل ماهر عن الماضي الدفين وقوة الذاكرة , كان يملك ذاكرة قوية جداً كما أحمل , بالتأكيد هذا لا يقبل مجالاً للشك .

جوّ الغرفة الحار نسبياً أسال من جبينة قطرة عرق , فـ قال لي بصوت أبحّ : ” الجوّ حار هنا , أليس كذلك ؟! ” , فأجبته بابتسامة مجاملة وإيماءة بأن نعم ومفادها ” بأنه ليس بحرارة الأسى بداخلك ” , وأجاب بسرعة جنونية جداً ” أنا هنا انتظر منذ نصف ساعة , أتساءل كم ستكون مدة انتظارك ؟! ” . لهجته التهكمية أشعلت بداخلي الأسئلة و أحرقت كل الصبر بداخلي قد عِلَم بالتأكيد أنني فهمت إشارته المثبطة بأن حماسك هذا سينطفئ مع الزمن , هذه الدنيا بقدر ما توهمك بأنك مع الزمن ستتعلم وستتطور , وأن مقدار كسبك سيكون بعدد السنوات , هي تخدعك لأن هناك سنة من السنوات ستصبح فيها أعزلاً , فرداً , ضائعاً , لا كسب , لا رزق , لا حكمة , لا هدوء , لا سلام , لا ولد , لا تلد , و مما يزيد الأمر حيرة , أنها نقطة منتصف العمر , أنت في وسط الطريق يا فتى , لم تكن في أوله لكي توقف اللعبة عند هذا الحد , ولست في آخرها لكي ترمي بسمّك على عقم السنين و عقدة آخر العمر , أنت في المنتصف , من الذي خدعك بأن الوسط جميل , من هذا الأحمق الذي سخر منك بقوله أن الوسط دائماً حقّ , بل على العكس إن لم تتمرد لم تتعلم , إن لم تمِل لن تستقيم , إن لم تخطئ لن تفعل صواباً واحداً في حياتك , من لزم الخوف لا يستحق مغامرة الحياة , من ترجل عن فرس جنون هذه الدنيا , فليس له الحق بلحق الركب , سوف ينصهر في لهيب رتابة المنتصف الوسط التوسط المثالية , كلها قيم وُجدت لكي يُحاد عنها , ألم تتعلم يوماً يا بائس أن الأشياء تعرف بأضدادها , وأن الخير يعرف بوقوع الشر , و أن الأمان يُرى كل الأمان بعد النوائب !

فأجبت : ” أعرف أنك لن تجلس مطولاً مع الطبيب سأنتظر مدة أقل بالتأكيد ” , نعم بالتأكيد عِلَم أني أطلب منه القليل من خبرته لكي يعطيني , و أني بقدر ما يراني صغير , مندفع , بقدر ما أخفي وفاءً لتجارب الآخرين , فالسعيد من اتعظ بغيره , و الحكمة من تتابع الجيل تلو الجيل , هي لاتخاذ الأسوة والقدوة .

لم أخبركم كيف كان يخبرني عن قصصه الطائشة بحاجباه التي يحركها بكل غرابة , الكثير من البشر يعتبر هذا الشيء سخفاً وقلة احترام , بينما الجزء الذكي منهم قد يعزو ذلك لضعف في البصر جرّاء لبس النظارة لمدة طويلة فتلك نتيجة , وأنا الوحيد بالتأكيد الذي أدرك أنه بدأ يحكي الحكايا , عنه وعن ذاته وكيف آل به المآل إلى هذه الحالة .

حاجبه الأيمن كان يخبرني بـأنه كان إنساناً متفوقاً في دراسته , وكان يتقبل العمل الذي كان يعمل به , كان طموحاً متّقداً , و طموحه أخذه إلى قمم شاهقة و أغوار سحيقة , الكثير من القصص يحكيها الحاجب الأيمن , و الحكمة منها كالآتي :
*إنْ كان علمي قد نفعْ … مالذلُّ إلا في الطمعْ
من راقبَ اللهَ نزعْ … عن سوء ماكان صنعْ
ماطار طيرٌ وارتفعْ … إلا كما طارَ وقعْ

حاجبه الأيسر كان يخفي وراءه قصة حب مجنونة , كان يخفي إنساناً جامحاً عاشقاً لا يخاف شيئاً في الحب , مظهره كان يوحي بالحذر , ومايخفي الحذرُ أعظم , كان حبه يكسر كل أعراف المنطق , يهشم كل نتائج الفلاسفة , كان يجتاح كل حمى العقول , يسرح ويمرح بأمر القلب والمحبوب , و حين يكون بهذه الحالة فلا يكاد يعرفه أحـد , على العموم هو توقف الآن عن التعبير بالحاجبان علم أنه تعرى أمامي ! , يبدو لي من تلك الحركة أنه لا يريدني أن أعرف بأنها كانت قصة حب فاشلة , على الأقل ليجعلها جميلة في نظر أحدهم ! .

نادى المنادي باسمه , علت وجهه حمرة و حسرة على انتهاء اللقاء هنا , أحبّ أن يهب لي طريقاً مفروشاً بالورود , ويختصر علي المسافة , فأجبته بـ ” ماتشوف شرّ ” , والتي تعني في لغتنا تلك , لن أقبل بطريق ولكني قد أقبل بنصيحة أو بتصحيح رؤية .

وبدل أن يقول ” الشر مايجيك ” قال لي بيتان فيهما خلاصة تجربته :

**فلو أنّ العقولَ تسوق رزقاً … لكان المالُ عند ذوي العقولِ
***خذْ ما تراهُ و دعْ شيئاً سمعت به … في طلعة الشمس مايغنيك عن زحلِ


القراطيسي .
** مجهول .
*** المتنبي .

 

أخبرني عن رأيك ..

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s