حتى الأغاني الطيبة تنتحبْ ” لا تنسحبْ , لا تنسحبْ ” !
حتى الأرض الصمّاء تستمع لخطواتي الرتيبة تبتعـد ..
حتى الجروح المنكفأة انتكأت, وعاد الأنين ظنين , و منذ الآن يقتلني الحنين ..
حتى الصراخ الذي اعتمد الصمتَ شعاراً له سنيناً طويلة , قد انقلب وغلب صوته الوجود ..
حتى أنا أظهرت الملل قبل أن تملينّي !
سأرحل قبل أنْ أصلْ ..
كي لا أُشعرك بالمللْ ..
كي لا تنتظريني كل صباحٍ طويلاً ..
كي لا تعتزمي الإبقاء على بقايا إنسان إحساناً وجميلاً ..
كي أحتفظ بصورتي الجميلة لديك ” خجولاً طويلاً نحيلاً ” ..
كي لا تختلط كل الصور عليك , فـ حتى أنا لم أعدْ أعرف من أنا وأين أنا ..
سأفتقد كل ذلك الوهم بالوصول ..
سأفتقد أشباه بسمتك , صدى ضحكتك , ظل عينيك ..
ضبابية بشرتك , رذاذ دمعتك , أصوات صمتك ..
حتى عبسك في وجهي , وبسرتك ..
سأفتقد دغدغة مشاعري حين تمري في خيالي , أو ألمح في الناس عينيك ..
وسأظل أسأل ذات السؤال دائماً ” هل لي أن أعرفك ؟! ”
سأظل أتساءل كـشباكٍ قديم يأن في كل نسمة هواء حنيناً لِما مضى ,
لِما يظن أنه قد يعود ,
لِما أخلف عليه الزمان من الوعود ,
لِما ذُكر ذات يوم بأن الغائب ” سيعود ” !
سأتظل أتساءل كـطاولةٍ في طرف قهوةٍ وسط السوق تكتظ يومياً بالزبائن ..
جلسنا عليها يوماً كما تستقبل هي من الزوار كل يوم , لكنها بكت ذلك اليوم !
ثقلت عليها أكواب حزننا , وحبنا , و شوقنا , وذكرياتنا , فانسكبت من على أطرافها دموعاً
غادرناها مسرعين , فرحين ,
ولم نستوعب أنها تقول لنا ” الدنيا لا تجمع شخصين في نفس المكان في نفس الموعد على نفس الطاولة , بنفس الظروف ! ”
سأتظل أتساءل كـتذكرةٍ تائهةٍ على أرضية مطارٍ مزدحم ..
تحمل كل المعلومات اللازمة , مغادرة مِن , إلى , ومتى , وعلى أي مقعد , لكنها تفتقد صاحبها !
هي لا تلومه فهو كثير النسيـان !
سأظل أتساءل كـجموحِ ورقةٍ مهترئة خربة متحللة في وسط كتابٍ بطبعته الحديثة ..
تظن أنّ بإمكانها أن تجاري ذلك الورق الفاخر , وتلك الحروف المشبعة بالحبر ..
ومصيرها أن تقلبها الأيادي و لا تعرف ماهيتها فتخطفها الريح قبل أن يستوعب قارئها بأنها مجرد ورقة فارغه مشبعة بالدموع !
سأظل أتساءل كلحافِ طفل ٍ فقير في ليلة ظلماء من ليالي الشتاء ..
يرفعه قليلاً لكي يغطي به وجهه المتجمد المتصلب ,
فتشتكي أطراف أصابعه من جمود الزمان , يحركها ببطء بصعوبة بابتسامة صفراء ..
مايلبث أن يأخذ نفساً عميقاً ليعيد الغطاء إلى قدميه الصغيرتين ,
وطالت جداً تلك الليلة الباردة على ذلك الطفل البريء !
سأظل أتساءل كـقبلاتِ الهواء التي نلتقطها عبر موجة المذياع يرسلها فلان إلى فلانة ..
لم تخرج من فمه ولا من زفرات أنفاسه , ولا هي استقبلتها بخدها الضامر شوقاً لسقيا فرح !
وسأظل أتساءل إلى أن يصلني جواب لن يشبع جوع قلبي ,
ولن يعوضني أرق ليالٍ طويلة ,
ولن يرسم ابتسامة مهاجرة منذ عقود
ولكنه قد يُجهز على بقايا ذلك الإنسان الخجول الطويل النحيل !